إخفاء العمل الصالح ، والفرح بثناء الناس على صاحبه ؟

السؤال:
 سؤال يسبب لي المتاعب : في بعض الأحيان يغلب على ظني أن الناس سيثنون علي إذا أخبرتهم بعمل من الأعمال الصالحة "من باب شكر الله عز و جل" ؛ فهل أخبرهم به ، وهل علي شيء إذا كنت ممن يفرح بثنائهم علي؟ وكيف نوفق بين الأدلة التي تحث على إخفاء العمل ، وبين التحديث بنعمة الله التي أهمها نعمة العمل الصالح ؟

الجواب :

الحمد لله

أولا :

التحدث بنعمة الله تعالى من دواعي شكرها ، ومن إقرار المسلم بفضل الله عليه ، قال الله تعالى : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) الضحى / 11.

قال السعدي رحمه الله :

" وهذا يشمل النعم الدينية والدنيوية ( فَحَدِّثْ ) أي : أثن على الله بها ، وخصصها بالذكر إن كان هناك مصلحة ، وإلا فحدث بنعم الله على الإطلاق ، فإن التحدث بنعمة الله ، داع لشكرها ، وموجب لتحبيب القلوب إلى من أنعم بها ، فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن " انتهى .

"تفسير السعدي" (ص928) .



وقال ابن كثير رحمه الله :

" قوله : ( وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم ) فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها ؛ لأنه أبعد عن الرياء ، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة ، من اقتداء الناس به ، فيكون أفضل من هذه الحيثية ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمُسِر بالقرآن كالمُسِر بالصدقة " 

والأصل أن الإسرار أفضل ، لهذه الآية ... " انتهى .

"تفسير ابن كثير" (1/701)

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :

" الذي يتحدث عن نفسه بفعل الطاعات لا يخلو من حالين :

الحال الأولى : أن يكون الحامل له على ذلك تزكية نفسه وإدلاله بعمله على ربه ، وهذا أمر خطير قد يؤدي إلى بطلان عمله وحبوطه ، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عباده عن تزكية نفوسهم فقال تعالى : ( فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى ) .

الحال الثانية : أن يكون الحامل له على ذلك التحدث بنعمة الله سبحانه وتعالى ، وأن يتخذ من هذا الإخبار عن نفسه سبيلاً إلى أن يقتدي به نظراؤه وأشكاله من بني جنسه ، وهذا قصد محمود ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) "

انتهى من "نور على الدرب" (12/ 30) .  

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله :

" جَاءَ آثَارٌ بِفَضِيلَةِ الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ ، وَآثَارٌ بِفَضِيلَةِ الْإِسْرَارِ بِهِ وَالْجَمْعُ بِأَنْ يُقَالَ : الْإِسْرَارُ أَفْضَلُ لِمَنْ يَخَافُ الرِّيَاءَ ، وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ لِمَنْ لَا يَخَافُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤْذِيَ غَيْرَهُ مِنْ مُصَلٍّ أَوْ نَائِمٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْجَهْرِ يَتَعَدَّى نَفْعُهُ إِلَى غَيْرِهِ أَيْ مِنْ اِسْتِمَاعٍ أَوْ تَعَلُّمٍ أَوْ ذَوْقٍ أَوْ كَوْنِهِ شِعَارًا لِلدِّينِ ، وَلِأَنَّهُ يُوقِظُ قَلْبَ الْقَارِئِ وَيَجْمَعُ هَمَّهُ وَيَطْرُدُ النَّوْمَ عَنْهُ وَيُنَشِّطُ غَيْرَهُ لِلْعِبَادَةِ . فَمَتَى حَضَرَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ النِّيَّاتِ فَالْجَهْرُ أَفْضَلُ " انتهى من "تحفة الأحوذي" (8/191)

وعليه :

فإذا كان التحدث بنعمة الله من باب نسبة الفضل إلى الله تعالى ، والإقرار بمنته على عبده ، وأنه الجواد الكريم ، أو كان ليقتدي بالإنسان غيره في فعل الخير ، حتى يكون له أجره وأجر من اقتدى به : فهذا مستحب مشروع .

وإن كان من باب تزكية النفس ، أو نسبة الفضل إليها ، أو المراءاة وتسميع الناس بالعمل ، وكسب الجاه والمنزلة  بما له من الطاعات ، ونحو ذلك : فهذا أمر مذموم مقبوح .

ثانيا :

إذا تحدث العبد بنعمة الله عليه على الوجه المشروع ، فأحسن الناس الثناء عليه فأعجبه ذلك ، ولم يخالط ذلك في قلبه طلب الرياء والسمعة ، فهو من عاجل بشرى المؤمن .

وعاجل بشرى المؤمن أن يعمل المؤمن العمل الصالح ، يرجو به وجه الله ، فيطلع الناس عليه من غير تعمد منه لإظهار ذلك ، أو مراءاة الناس به ، فيثنوا عليه خيرا ، فيعجبه ذلك .

روى مسلم (2642) عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ : قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ ؟ قَالَ : ( تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ ) 

والله تعالى أعلم .

الغفلة عن نية التقرب إلى الله

السؤال :
هل يؤثر عدم استحضار نية التقرب إلى الله على صحة العمل ، أم ينقص من الأجر فقط ، فإن نوى شخصٌ الغسلَ بنية الدخول في الإسلام ، أو رفع الحدث الأكبر ، وغفل عن نية التقرب إلى الله فهل يصح غُسلُه ؟

الجواب : 
الحمد لله
أولا : 
لا شك أن تصحيح النية ، واستحضارها في بداية العمل ، من أعظم ما ينبغي أن يشتغل به العابد ، فإن عليها مدار قبول العمل أو رده ، وعليها مدار صلاح القلب أو فساده ؛ فإن القلب لا يصلح إلا بأن يكون عمله وسعيه لله خالصا مما سواه . 
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ) متفق عليه .

قال النووي رحمه الله : 
" أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عِظَمِ مَوْقِعِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَكَثْرَةِ فَوَائِدِهِ وَصِحَّتِهِ ... 
ثم قال : 
قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْأُصُولِ وَغَيْرُهُمْ : لَفْظَةُ ( إِنَّمَا ) مَوْضُوعَةٌ لِلْحَصْرِ ، تُثْبِتُ الْمَذْكُورَ ، وَتَنْفِي مَا سِوَاهُ . فَتَقْدِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ : إِنَّ الْأَعْمَالَ تُحْسَبُ بِنِيَّةٍ ، وَلَا تُحْسَبُ إِذَا كَانَتْ بِلَا نِيَّةٍ . وَفِيهِ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ ، وَهِيَ الْوُضُوءُ ، وَالْغُسْلُ وَالتَّيَمُّمُ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ وَالِاعْتِكَافُ وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ " انتهى من " شرح مسلم للنووي " (13/47) .

وقال ابن رجب رحمه الله : 
" وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ : « وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى » إِخْبَارٌ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ إِلَّا مَا نَوَاهُ بِهِ ، فَإِنْ نَوَى خَيْرًا حَصَلَ لَهُ خَيْرٌ ، وَإِنْ نَوَى بِهِ شَرًّا حَصَلَ لَهُ شَرٌّ ، وَلَيْسَ هَذَا تَكْرِيرًا مَحْضًا لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى ، فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى دَلَّتْ عَلَى أَنَّ صَلَاحَ الْعَمَلِ وَفَسَادَهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِإِيجَادِهِ ، وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ الْعَامِلِ عَلَى عَمَلِهِ بِحَسَبِ نِيَّتِهِ الصَّالِحَةِ ، وَأَنَّ عِقَابَهُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ نِيَّتِهِ الْفَاسِدَةِ ، وَقَدْ تَكُونُ نِيَّتُهُ مُبَاحَةً ، فَيَكُونُ الْعَمَلُ مُبَاحًا ، فَلَا يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ ، فَالْعَمَلُ فِي نَفْسِهِ صَلَاحُهُ وَفَسَادُهُ وَإِبَاحَتُهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ الْحَامِلَةِ عَلَيْهِ ، الْمُقْتَضِيَةِ لِوُجُودِهِ ، وَثَوَابُ الْعَامِلِ وَعِقَابُهُ وَسَلَامَتُهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ الَّتِي بِهَا صَارَ الْعَمَلُ صَالِحًا ، أَوْ فَاسِدًا ، أَوْ مُبَاحًا " انتهى من " جامع العلوم والحكم " (1/65) ، وينظر : "إعلام الموقعين" (3/91) .

ثانيا : 
النية التي عليها مدار الصحة والفساد ، والتي يذكرها الفقهاء : هي نية تمييز العمل عما سواه ، وأما النية التي عليها مدار قبول العمل أو رده : فهي قصد تمييز " المعمول له " ، المعبود ، عمن سواه ، وهي التي يعبَّر عنها بالإخلاص .

قال ابن رجب رحمه الله : 
" وَاعْلَمْ أَنَّ النِّيَّةَ فِي اللُّغَةِ نَوْعٌ مِنَ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فُرِّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِمَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ . 
وَالنِّيَّةُ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ تَقَعُ بِمَعْنَيَيْنِ : 
أَحَدُهُمَا : بِمَعْنَى تَمْيِيزِ الْعِبَادَاتِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ ، كَتَمْيِيزِ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَثَلًا ، وَتَمْيِيزِ صِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ صِيَامِ غَيْرِهِ ، أَوْ تَمْيِيزِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْعَادَاتِ ، كَتَمْيِيزِ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ مِنْ غُسْلِ التَّبَرُّدِ وَالتَّنَظُّفِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَهَذِهِ النِّيَّةُ هِيَ الَّتِي تُوجَدُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي كُتُبِهِمْ . 
وَالْمَعْنَى الثَّانِي : بِمَعْنَى تَمْيِيزِ الْمَقْصُودِ بِالْعَمَلِ ، وَهَلْ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، أَمْ غَيْرُهُ ، أَمِ اللَّهُ وَغَيْرُهُ ، وَهَذِهِ النِّيَّةُ هِيَ الَّتِي يَتَكَلَّمُ فِيهَا الْعَارِفُونَ فِي كُتُبِهِمْ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى الْإِخْلَاصِ وَتَوَابِعِهِ ، وَهِيَ الَّتِي تُوجَدُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ " انتهى من " جامع العلوم والحكم " (1/65) .
فحاصل ذلك : 
أن النية التي يتوقف عليها صحة العمل : هي تمييز هذا العمل الذي يريده المكلف ؛ فيميز غسل الجنابة ، من غسل التنظف أو التبرد ، ونحو ذلك . 
وهذا هو المطلوب في تصحيح العمل .

وأما نية التقرب ، فهي مما يتفاوت فيه الناس تفاوتا عظيما ، وبحسب تحقيقها وإخلاصها يكون قدر العامل وعمله عند الله .

ولا يلزم في ذلك أن يستحضر العامل نية " التقرب " ، بخصوص ذلك اللفظ ، بل لو نوى " العبادة " ، أو " التعبد لله " أو طاعته ، أو التزام أمره ، ونحو ذلك من المقاصد الشرعية الصحيحة : فهي كافية . 
ينظر : " الموسوعة الفقهية " (33/92) وما بعدها ، " مقاصد المكلفين " للأشقر (50-56) .

ولعله لذلك ذهب من ذهب من الفقهاء إلى أنه لا يشترط نية " التقرب " في العمل ، بخصوصها ؛ بل يكفي أن ينوي العمل المعين ، أو العبادة المعينة ، مع تمييزها عن غيرها . 
ينظر : " التلخيص في أصول الفقه " للجويني (1/486) ، " المستصفى من علم الأصول " للغزالي (1/62) .

وهذه النية المطلوبة في تصحيح العمل : عادة ما تكون حاصلة في قلب العبد عند عمله ؛ وإلا فما الذي يدفع من أراد الدخول في الإسلام : إلى الغسل ، وما الذي يدفع الحائض إذا طهرت إلى الغسل ، لا سيما في البرد الشديد ؟

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : 
" وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَكُونُ فِي قَلْبِهِ مَعَارِفُ وَإِرَادَاتٌ ، وَلَا يَدْرِي أَنَّهَا فِي قَلْبِهِ ، فَوُجُودُ الشَّيْءِ فِي الْقَلْبِ شَيْءٌ ، وَالدِّرَايَةُ بِهِ شَيْءٌ آخَرُ ; وَلِهَذَا يُوجَدُ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَطْلُبُ تَحْصِيلَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ ، وَهُوَ حَاصِلٌ فِي قَلْبِهِ ، فَتَرَاهُ يَتْعَبُ تَعَبًا كَثِيرًا لِجَهْلِهِ ، وَهَذَا كَالْمُوَسْوَسِ فِي الصَّلَاةِ ; فَإِنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا بِاخْتِيَارِهِ ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَهُ ، وَوُجُودُ ذَلِكَ بِدُونِ النِّيَّةِ - الَّتِي هِيَ الْإِرَادَةُ – مُمْتَنِعٌ ، فَمَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ يُرِيدُ الصَّلَاةَ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ الصَّلَاةَ فَطَلَبُ مِثْلِ هَذَا لِتَحْصِيلِ النِّيَّةِ مِنْ جَهْلِهِ بِحَقِيقَةِ النِّيَّةِ وَوُجُودِهَا فِي نَفْسِهِ .
وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ ، وَهُوَ مُسْلِمٌ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصَّوْمِ ، وَهُوَ مُرِيدٌ لِلصَّوْمِ ، فَهَذَا نِيَّةُ الصَّوْمِ . وَهُوَ حِينَ يَتَعَشَّى يَتَعَشَّى عَشَاءَ مَنْ يُرِيدُ الصَّوْمَ ، وَلِهَذَا يُفَرِّقُ بَيْنَ عَشَاءِ لَيْلَةِ الْعِيدِ ، وَعِشَاءِ لَيَالِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَلَيْلَةُ الْعِيدِ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَصُومُ ، فَلَا يُرِيدُ الصَّوْمَ وَلَا يَنْوِيهِ ، وَلَا يَتَعَشَّى عَشَاءَ مَنْ يُرِيدُ الصَّوْمَ .
وَهَذَا مِثْلُ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ ، وَيَمْشِي وَيَرْكَبُ ، وَيَلْبَسُ ، إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَهَا ، وَهَذِهِ نِيَّتُهَا ، فَلَوْ قَالَ بِلِسَانِهِ : أُرِيدُ أَنْ أَضَعَ يَدِيَ فِي هَذَا الْإِنَاءِ لِآخُذَ لُقْمَةً آكُلُهَا ، كَانَ أَحْمَقَ عِنْدَ النَّاسِ . فَهَكَذَا مَنْ يَتَكَلَّمُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي نِيَّةِ الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ وَالصِّيَامِ " انتهى من " منهاج السنة النبوية " (5/398-399) .

وقال ابن القيم رحمه الله : 
" النية قصد فعل الشيء ، فكل عازم على فعل فهو ناويه ، لا يتصور انفكاك ذلك عن النية فإنه حقيقتها ، فلا يمكن عدمها في حال وجودها ، ومن قعد ليتوضأ فقد نوى الوضوء ، ومن قام ليصلي فقد نوى الصلاة ، ولا يكاد العاقل يفعل شيئاً من العبادات ولا غيرها بغير نية ، فالنية أمر لازم لأفعال الإنسان المقصودة ، لا يحتاج إلى تعب ولا تحصيل . ولو أراد إخلاء أفعاله الاختيارية عن نيته لعجز عن ذلك . ولو كلفه الله عز وجل الصلاة والوضوء بغير نية لكلفه ما لا يطيق ، ولا يدخل تحت وسعه " انتهى من " إغاثة اللهفان " (1/137) .

والله أعلم .

كيف أنوي العمل لله وكيف أحتسب الأجر فيه ؟

السؤال:
 كيف أنوي عمل العمل لله ، فأنا قبل أي عمل أقعد مع نفسي لحظات وأتخذ النيات المتعددة لله ، فمثلا عند قراءة القرآن أنوي نية الطاعة ، والعلم ، والعمل به ، والأجر ، والشفاء ، والشفاعة ، والتدبر ، وغيرها ، فأقوم بتأمل تلك الأشياء من باب النية ، فهل هكذا اتخاذ النية . وبالنسبة للاحتساب ، فهل أنا ملزم عند كل عمل أن أحتسب الأجر عند الله عز وجل ، وعند كل فريضة ونافلة وأي عمل ، وإذا نسيت ماذا علي فهل ذهب عملي سدى ، وكيف أحتسب الأجر عند الله ، وماذا علي لو لم أعرف أجر العمل الذي أقوم به ، فكيف أحتسبه ؟ وشكرا لكم كثيرا إخوتي في الله ، والله إني أحبكم كثيرا في الله .
الجواب :
الحمد لله
أولا :
الحديث في " النيات " من أدق الأحاديث وأصعبها ؛ لارتباطها بخفايا النفوس وتعلقها بأفكار القلوب التي لا تنكشف إلا بالتفكر في مراحلها ودرجاتها ، ولأن علم السلوك قائم عليها ، يدور في فلكها ، وهو من أدق العلوم وأرقاها ، ولا تتم سعادة العبد ولا نجاته يوم القيامة إلا بالتوفيق إلى النية الصالحة .
لذلك نجد في صفحات تراث سلفنا الصالحين ، وعلمائنا الأبرار المتقين الكثير من تجارب الخوض في هذه الأبواب ، والكثير من العلوم التي بنيت لفهم حقيقة النية وطريقة الإخلاص ومعالجة الإرادة . 
وكان مما قالوه أن كل عمل لا بد - كي يقوم ويتم - أن تتحقق فيه أركان ثلاثة : 
1- الداعية الباعثة على العمل ( العلم ) 
2- والإرادة التي هي الانبعاث نحو العمل ( القصد والنية ) 
3- والقدرة (العمل).
ولنمثل لذلك بمثال يتضح به المقال : إذا هجم على الإنسان سبع أو وحش مثلا ، فإن معرفته بضرر السبع وأذيته له هي الداعية الباعثة على الهرب للتخلص من ذلك الضرر ، فتحقق الركن الأول ( الباعث )، ولذلك ستنبعث في قلبه إرادة الهرب وقصده ، فيتحقق الركن الثاني ( النية )، ثم تنتهض القدرة لتفعل فعل الهرب بسبب الإرادة ، فيتم الفعل بذلك .
فالفعل هنا هو الهرب ، والنية هي الفرار من السبع لا غير ، والباعث الذي هو المقصد المنوي الذي دعا إلى الفعل هو التخلص من ضرر السبع وأذاه . 
ينظر: " إحياء علوم الدين " ، للغزالي (4/365) . 
ثانيا : 
من أراد أن ينوي النية الصالحة في عمله ، فلا بد أن يلتفت إلى الباعث الداعي الذي يزجره نحو ذلك العمل ، فيحرص على أن يكون باعثه أمرا صالحا مشروعا ، مما يحبه الله ويرضاه ويثيب عليه ، فتنطلق النية والإرادة نحو ذلك العمل بسبب هذا الباعث الصالح ، وبهذا تكون النية لله تعالى ، ثم عليه بعد ذلك أن يحافظ على هذا الداعي الأصلي الخالص لله تعالى ، فلا يتفلت منه أثناء عمله ، ولا يتقلب ، ولا ينصرف إلى غير الله ، ولا يداخله شرك آخر . 
ولهذا قال سفيان الثوري رحمه الله : 
" سفيان الثوريّ: "ما عالجت شيئاً عليّ أشد من نيّتي، إنها تتقلب عليّ " !!

فمن أراد أن يقوم بعمل " قراءة القرآن الكريم " مثلا ، ويكون عمله خالصا متقبلا عند الله تعالى ، فلا بد أن ينشأ الباعث في نفسه نشأة صحيحة شرعية ، كقصد عبادة الله تعالى ، أو يعلم فضيلة ثواب قراءة القرآن الكريم فتتشوف النفس لتحصيله ، أو يعرف منفعة التدبر والتأمل في آيات الله تعالى ، أو أن القرآن الكريم يأتي شفيعا لصاحبه يوم القيامة ، أو يستحضر أن القرآن كلام الله ، وهو من أحب ما يتقرب به إليه ، ونحو ذلك من البواعث الشرعية التي تلقي في النفس الرغبة نحو هذا الفعل . 
فإذا رغبت النفس به ، وانطلقت الإرادة نحو تحقيقه لأجل تلك الأغراض : تحققت النية ، ثم إذا توفرت القدرة لتحقيق التلاوة : اكتمل العمل المشروع الخالص لوجه الله عز وجل . 
ثم يبقى عليه بعد ذلك أن يحافظ على ما حصله من النية الخالصة ، والعمل الصالح ، فعدوه إبليس يتلصص عليه ، حريص على أن يخطف منه ما استطاع !!

ثالثا: 
البواعث التي بتعث المرء على العمل الصالح قد تتعدد ، ولها درجات ومراتب ، وإذا كانت كلها صالحة تضاعف أجر العمل أضعافا كثيرة ، وكلما تعلقت بالدرجات العلى من اليقين والإيمان كان العمل أعظم عند الله عز وجل . 
يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله :
" أما الأصل فهو أن ينوى بها عبادة الله تعالى لا غير ، فإن نوى الرياء صارت معصية ، وأما تضاعف الفضل فبكثرة النيات الحسنة ، فإن الطاعة الواحدة يمكن أن ينوي بها خيرات كثيرة ، فيكون له بكل نية ثواب ، إذ كل واحدة منها حسنة ، ثم تضاعف كل حسنة عشر أمثالها كما ورد به الخبر .
ومثاله : القعود فى المسجد ، فإنه طاعة ، ويمكن أن ينوى فيه نيات كثيرة حتى يصير من فضائل أعمال المتقين ، ويبلغ به درجات المقربين :
أولها : أن يعتقد أنه بيت الله ، وأن داخله زائر الله ، فيقصد به زيارة مولاه رجاء لما وعده به رسول الله صلى الله عليه وسلم . 
وثانيها : أن ينتظر الصلاة بعد الصلاة ، فيكون في جملة انتظاره في الصلاة . 
وثالثها : كف السمع والبصر والأعضاء عن الحركات والترددات ، فإن الاعتكاف كف وهو في معنى الصوم . 
ورابعها : عكوف الهم على الله ، ولزوم السر للفكر في الآخرة ، ودفع الشواغل الصارفة عنه بالاعتزال إلى المسجد .
وخامسها : التجرد لذكر الله ، أو لاستماع ذكره وللتذكر به . 
وسادسها : أن يقصد إفادة العلم بأمر بمعروف ونهي عن منكر ، إذ المسجد لا يخلو عمن يسيء في صلاته ، أو يتعاطى ما لا يحل له ، فيأمره بالمعروف ويرشده إلى الدين ، فيكون شريكا معه في خيره الذي يعلم منه ، فتتضاعف خيراته .
وسابعها : أن يستفيد أخا في الله ، فإن ذلك غنيمة وذخيرة للدار الآخرة ، والمسجد معشش أهل الدين المحبين لله وفي الله .
وثامنها : أن يترك الذنوب حياء من الله تعالى ، وحياء من أن يتعاطى في بيت الله ما يقتضي هتك الحرمة .
فهذا طريق تكثير النيات ، وقس به سائر الطاعات والمباحات ، إذ ما من طاعة إلا وتحتمل نيات كثيرة ، وإنما تحضر في قلب العبد المؤمن بقدر جده في طلب الخير وتشمره له ، وتفكر فيه ، فبهذا تزكوا الأعمال وتتضاعف الحسنات " انتهى باختصار من " إحياء علوم الدين " (4/370-371)

رابعاً: 
وأما الاحتساب فهو مرادف الإخلاص لوجه الله تعالى ، لا فرق بينهما ، فمن نوى بعمله نية صالحة فقد احتسبه عند الله تعالى ، ولا يحتاج إلى مزيد استحضار قلبي لفكرة أخرى .
يقول الإمام النووي رحمه الله :
" معنى : ( احتسابا ) : أن يريد الله تعالى وحده ، لا يقصد رؤية الناس ، ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص " انتهى من " شرح مسلم " (6/39)
ويقول ابن بطال رحمه الله : 
" وقوله : ( احتسابًا ) يعنى : يفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى " انتهى من " شرح صحيح البخاري " (4/146)
ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" الأجر الموعود به إنما يحصل لمن صنع ذلك احتسابا : أي : خالصا " انتهى من " فتح الباري " (1/110)

وينصح بمراجعة كتاب "مقاصد المكلفين" لفضيلة الدكتور عمر سليمان الأشقر، حفظه الله ، فهو كتاب نافع مفيد في بابه . 

والله أعلم .

ضوابط الإخلاص في العمل

السؤال:
ينبغي على العبد استحضار النية وتصحيحها قبل أي عمل، فكيف يكون ذلك ؟ وما هي المعايير والضوابط لمعرفة أن ما تقوم به صحيح وخالص لله ؟

الجواب:
الحمد لله
أولا :
تصحيح النية ، واستحضارها في بداية العمل ، من أعظم ما ينبغي أن يشتغل به المسلم ، فإن عليها مدار قبول العمل ، أو رده ، وعليها مدار صلاح القلب أو فساده .

ومن أراد أن ينوي النية الصالحة في عمله ، فلا بد أن يلتفت إلى الباعث الداعي الذي يدعوه إلى ذلك العمل ، فيحرص على أن يكون باعثه هو مرضاة الله تعالى وطاعته ، وامتثال أمره 
، فبهذا تكون النية لله تعالى ، ثم عليه بعد ذلك أن يحافظ على هذا الباعث الأصلي على العمل ، الخالص لله تعالى ، فلا يتفلت منه أثناء عمله ، ولا يتقلب قلبه ونيته ، ولا ينصرف إلى غير الله ، ولا يداخله شرك آخر .

ثانيا :
يستطيع العبد أن يتعرف على إخلاصه في العمل ، وأنه لا يعمل إلا لله ، بمراعاة ما يلي :
- ألا يعمل العمل من أجل أن يراه الناس أو يسمعوا به .
روى البخاري (6499) ، ومسلم (2987) عن جُنْدُب قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ يُسَمِّعْ يُسَمِّعِ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا عَلَى غَيْرِ إِخْلَاصٍ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ وَيَسْمَعُوهُ : جُوزِيَ عَلَى ذَلِكَ ، بِأَنْ يُشَهِّرَهُ اللَّهُ وَيَفْضَحَهُ ، وَيُظْهِرَ مَا كَانَ يُبْطِنُهُ .
وَقِيلَ : مَنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ الجاه والمنزلة عند الناس ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ : فَإِنَّ اللَّهَ يَجْعَلُهُ حَدِيثًا عِنْدَ النَّاسِ الَّذِينَ أَرَادَ نَيْلَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ ، وَلَا ثَوَابَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ ".
انتهى من " فتح الباري " (11/ 336).

وقَالَ العزّ ابن عَبْدِ السَّلَامِ رحمه الله : " يُسْتَثْنَى مِنِ اسْتِحْبَابِ إِخْفَاءِ الْعَمَلِ: مَنْ يُظْهِرُهُ لِيُقْتَدَى بِهِ أَوْ لِيُنْتَفَعَ بِهِ كَكِتَابَةِ الْعِلْمِ " انتهى من " فتح الباري " (11/ 337) .

- ألا يتعلق قلبه بمدح الناس ، أو وذمهم له . 
قال ابن القيم رحمه الله :
" مَتَى اسْتَقَرَّتْ قَدَمُ الْعَبْدِ فِي مَنْزِلَةِ الْإِخْبَاتِ ، وَتَمَكَّنَ فِيهَا : ارْتَفَعَتْ هِمَّتُه ُ، وَعَلَتْ نَفْسُهُ عَنْ خَطْفَاتِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ ، فَلَا يَفْرَحُ بِمَدْحِ النَّاسِ. وَلَا يَحْزَنُ لِذَمِّهِمْ ، هَذَا وَصْفُ مَنْ خَرَجَ عَنْ حَظِّ نَفْسِهِ ، وَتَأَهَّلَ لعُبُودِيَّةِ رَبِّهِ ، وَبَاشَرَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ قَلْبُهُ " .
انتهى من " مدارج السالكين " (2/ 8).

- أن يكون إخفاء العمل والإسرار به أحب إليه من إظهاره .
عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: " كَانَ أَبُو وَائِلٍ إِذَا صَلَّى فِي بَيْتِهِ يَنْشُجُ نَشْجًا ، وَلَوْ جُعِلَتْ لَهُ الدُّنْيَا عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ وَأَحَدٌ يَرَاهُ مَا فَعَلَهُ " رواه أحمد في " الزهد " (ص 290) .

- أن يكون حريصا على البعد عن مواطن الظهور والشهرة، إلا أن يكون في ذلك مصلحة شرعية .
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله : " ما صدق الله من أراد أن يشتهر " .
انتهى من " إحياء علوم الدين " (3/ 297) .
- ألا يزيد في العمل ويحسنه لرؤية الناس.
وقد قيل: " الْإِخْلَاصُ : اسْتِوَاءُ أَعْمَالِ الْعَبْدِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. 
وَالرِّيَاءُ: أَنْ يَكُونَ ظَاهِرَهُ خَيْرًا مِنْ بَاطِنِهِ " انتهى من "مدارج السالكين" (2/ 91) .
- أن يتهم دائما نفسه بالتقصير ، ولا يرى لها فضلا ، ويعلم أن الفضل كله لله ، ولولا الله تعالى لهلك .
قال تعالى : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) النور/ 21 . 
- أن يكثر من الاستغفار بعد العمل ، لشعوره بالتقصير .
قال السعدي رحمه الله:
" ينبغي للعبد، كلما فرغ من عبادة ، أن يستغفر الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، لا كمن يرى أنه قد أكمل العبادة ، ومنّ بها على ربه ، وجعلت له محلا ومنزلة رفيعة ، فهذا حقيق بالمقت ، ورد الفعل، كما أن الأول، حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أخر " .
انتهى من " تفسير السعدي " (ص 92).
- الفرح بتوفيق الله للعمل الصالح .
قال تعالى: ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) يونس/ 58 .
فمن راعى ذلك في عمله : فعسى أن يكون من المخلصين .

أما القطع بالإخلاص في العمل: فهذا لا سبيل إليه، لأن علم ذلك عند الله وحده، ولكن العبد يأخذ بأسباب الإخلاص ، ويسأل الله تعالى التوفيق إلى حسن العمل ، ولا يقطع به لنفسه ، ولا لغيره .

والله أعلم .

هل يمكن أن تنتقم الشياطين من الرقاة

السؤال:
منذ مدة كنت أعالج بالرقية الشرعية من الكتاب والسنة ، والآن قطعتها ، والسبب في ذلك أنني استيقظت من نومي منتصف ليلة فوجدت في وجهي ضربتين ، كأنها كيٌّ بالنار تماما ، ووجهي محمر ، وتقيأت مع دوخة ، فاستغربت هل هذا من انتقام شياطين الجن من الرقاة أم لا ؟ مع العلم أنني مواظب على التحصينات اليومية ـ ولله الحمد ـ .

الجواب :
الحمد لله
قد يكون هذا من البلاء والأذى الذي يحصل للمسلم من الشياطين ، فكما أنه قد يتعرض لأذى الإنسيّ وضربه وسبه ، فكذلك يمكن أن يتعرض لمثله من الجنيّ . 
وتسلط الجن على بعض بني آدم ، لسبب ، أو لغير سبب ، بأنواع من الأذى في بدنه ، أو ماله ، أو نحو ذلك : أمر معروف ومشهور ؛ وإلا فمن أي شيء كنت ترقي الناس ؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : 
" والشياطين يوالون من يفعل ما يحبونه ، من الشرك والفسوق والعصيان. 
فتارة يخبرونه ببعض الأمور الغائبة ليكاشف بها. 
وتارة يؤذون من يريد أذاه ؛ بقتل وتمريض ونحو ذلك. 
وتارة يجلبون له من يريده من الإنس. 
وتارة يسرقون له ما يسرقونه من أموال الناس ، من نقد وطعام وثياب وغير ذلك ؛ 
فيعتقد أنه من كرامات الأولياء وإنما يكون مسروقا .. " انتهى من "مجموع الفتاوى" (1/174) .

والواجب عليه في مثل ذلك : أن يتقي ويصبر ، ويسأل الله العون وكشف الضر ، ويتحصن بالتحصينات الشرعية من الذكر وتلاوة القرآن ، فيحافظ على أذكار الصباح والمساء ، وأذكار الصلوات ، وأذكار النوم ، وغير ذلك من الأذكار المقيدة والمطلقة .
كما يحافظ على ورد التلاوة ، ولا يترك تلاوة القرآن ، وخاصة سورة البقرة ، فإن الشياطين تفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة .
ولا نقدر أن نقطع بأن ذلك بسبب ما كنت تباشره من الرقية ، ولكن عد إلى رقية الناس بالرقى الشرعية ، ما دمت في ذلك تنفع الناس ، وتعينهم على كشف الضر ، وتفريج الكربة ، والتزم فيها بأحكام وآداب الشريعة .
روى مسلم (2199) عن جَابِر بْن عَبْدِ اللهِ قال: " لَدَغَتْ رَجُلًا مِنَّا عَقْرَبٌ ، وَنَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ أَرْقِي ؟ قَالَ: (مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ) " .
وقد يكون ما حصل لك بسبب عضوي أو نفسي ، فتحتاج أن تعرض نفسك على الطبيب .
وهو - على الحالين - بلاء ، يجب عليك تجاهه أن تصبر وتحتسب .

ولا تشغل نفسك كثيرا بمسألة انتقام الجن وتسلطه على الرقاة ، فإن كثرة هذه الانشغالات تجلب الوسواس ، وتجعل الإنسان عرضة للشيطان ، فيتسلط عليه بأنواع الوساوس والأذى .

والله أعلم .

جملة من آداب الدعاء

ما آداب الدعاء وكيفيته وما هي واجباته وسننه ؟ وكيف يبدأ وكيف ينتهي ؟‏ وهل يمكن تقديم مسألة الأمور الدنيوية على الآخرة ؟ 
 وما مدى صحة رفع اليدين في الدعاء - وكيفيته إن صح -.

الحمد لله

أولاً :

إن الله تعالى يحب أن يُسأل ، ويُرغبَ إليه في كل شيء ، ويغضب على من لم يسأله ، ويستدعي من عباده سؤاله ، قال الله تعالى : ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ) غافر/60 .

وللدعاء من الدين منزلة عالية رفيعة ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الدعاء هو العبادة ) رواه الترمذي (3372) وأبو داود (1479) وابن ماجه (3828) وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" (2590) .

ثانياً :

آداب الدعاء :

1. أن يكون الداعي موحداً لله تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ، ممتلئاً قلبه بالتوحيد ، فشرط إجابة الله للدعاء : استجابة العبد لربه بطاعته وترك معصيته ، قال الله تعالى: ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) البقرة/186 .

2. الإخلاص لله تعالى في الدعاء ، قال الله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ) البينة/5 ، والدعاء هو العبادة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، فالإخلاص شرط لقبوله .

3. أن يسأل اللهَ تعالى بأسمائه الحسنى ، قال الله تعالى : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) الأعراف/180 .

4. الثناء على الله تعالى قبل الدعاء بما هو أهله ، روى الترمذي (3476) عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ : بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي ، إِذَا صَلَّيْتَ فَقَعَدْتَ فَاحْمَدْ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ، وَصَلِّ عَلَيَّ ، ثُمَّ ادْعُهُ ) وفي رواية له (3477) : ( إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ لْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ ) . قَالَ : ثُمَّ صَلَّى رَجُلٌ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَيُّهَا الْمُصَلِّي ، ادْعُ تُجَبْ ) صححه الألباني في "صحيح الترمذي" (2765 ، 2767) .

5. الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل دعاء محجوب حتى تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ) رواه الطبراني في "الأوسط" (1/220) ، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح الجامع" (4399) .

6. استقبال القبلة ، روى مسلم ( 1763 ) عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلا ، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ : ( اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي ، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي ، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ ) فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ . . . الحديث .

قال النووي رحمه الله في شرح مسلم : فِيهِ اِسْتِحْبَاب اِسْتِقْبَال الْقِبْلَة فِي الدُّعَاء ، وَرَفْع الْيَدَيْنِ فِيهِ .

7. رفع اليدين ، روى أبو داود ( 1488 ) عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا ) ، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح أبي داود" (1320) .

ويكون باطن الكف إلى السماء على صفة الطالب المتذلل الفقير المنتظر أن يُعْطَى ، روى أبو داود (1486) عن مَالِكِ بْنَ يَسَارٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ وَلا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا ) ، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح أبي داود" (1318) .

وهل يضم يديه عند رفعهما أو يجعل بينهما فرجة ؟

نص الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "الشرح الممتع" (4/25) أنها تكون مضمومة . ونص كلامه : " وأما التفريج والمباعدة بينهما فلا أعلم له أصلا لا في السنة ولا في كلام العلماء " انتهى .

8. اليقين بالله تعالى بالإجابة ، وحضور القلب ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ ) رواه الترمذي (3479) ، وحسنه الشيخ الألباني في "صحيح الترمذي" (2766) .

9. الإكثار من المسألة ، فيسأل العبد ربه ما يشاء من خير الدنيا والآخرة ، والإلحاح في الدعاء ، وعدم استعجال الاستجابة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا الاسْتِعْجَالُ ؟ قَالَ : يَقُولُ : قَدْ دَعَوْتُ ، وَقَدْ دَعَوْتُ ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي ، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ ) رواه البخاري (6340) ومسلم (2735) .

10. الجزم فيه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ ، لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ ، فَإِنَّ اللهَ لا مُكْرِهَ لَهُ ) رواه البخاري (6339) ومسلم (2679) .

11. التضرع والخشوع والرغبة والرهبة ، قال الله تعالى : ( ادعوا ربكم تضرعاً وخفية ) الأعراف/55، وقال : ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين ) الأنبياء/90 ، وقال : ( واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ) الأعراف/205 .

12. الدعاء ثلاثاً ، روى البخاري (240) ومسلم (1794) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : ( بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالأَمْسِ ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ : أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلا جَزُورِ بَنِي فُلانٍ فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ ، فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَأَخَذَهُ فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ ، قَالَ : فَاسْتَضْحَكُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ . وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ فَجَاءَتْ وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ - وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلاثًا ، وَإِذَا سأَلَ سَأَلَ ثَلاثًا - ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمْ الضِّحْكُ وَخَافُوا دَعْوَتَهُ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ - وَذَكَرَ السَّابِعَ وَلَمْ أَحْفَظْهُ - فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ ) .

13. إطابة المأكل والملبس ، روى مسلم (1015) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ، فَقَالَ : ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) ، وَقَالَ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ) قال ابن رجب رحمه الله : فأكل الحلال وشربه ولبسه والتغذي به سبب موجِبٌ لإجابة الدعاء ا.هـ .

14. إخفاء الدعاء وعدم الجهر به ، قال الله تعالى : ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية ) الأعراف/55 ، وأثنى الله تعالى على عبده زكريا عليه السلام بقوله : ( إذ نادى ربه نداءً خفياً ) مريم/3 .

وقد سبق بيان نبذة عن الدعاء ، والأسباب المعينة للداعي على تحقيق الإجابة ، وآدابه ، والأوقات والأماكن الفاضلة التي هي مظنة الإجابة ، وكذا أحوال الداعي ، وموانع إجابة الدعاء ، وأنواع الاستجابة : كل ذلك في جواب السؤال رقم (لماذا لا يستجيب الله لدعائنا) .

لماذا لا يستجيب الله لدعائنا

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : ( والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح ، والسلاح بضاربه ، لا بحده فقط ، فمتى كان السلاح سلاحا تاما لا آفة به ، والساعد ساعد قوي ، والمانع مفقود ، حصلت به النكاية في العدو . ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير ) الداء والدواء ص35 . 
فيتبين من ذلك أن هناك أحوالا و آدابا  و أحكاما يجب توفرها في الدعاء و في الداعي ، و أن هناك موانع و حواجب تحجب وصول الدعاء و استجابته يجب انتفاؤها عن الداعي و عن الدعاء ، فمتى تحقق ذلك تحققت الإجابة .

و من الأسباب المعينة للداعي على تحقيق الإجابة :

1 - الإخلاص في الدعاء ، وهو أهم الآداب وأعظمها وأمر الله عز و جل بالإخلاص في الدعاء فقال سبحانه : ( وادعوه مخلصين له الدين ) ، والإخلاص في الدعاء هو الاعتقاد الجازم بأن المدعو وهو الله عز وجل هو القادر وحده على قضاء حاجته و البعد عن مراءاة الخلق بذلك .

2 - التوبة والرجوع إلى الله تعالى ، فإن المعاصي من الأسباب الرئيسة لحجب الدعاء فينبغي للداعي أن يبادر للتوبة والاستغفار قبل دعائه قال الله عز وجل على لسان نوح عليه السلام : ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ) .

3 - التضرع و الخشوع و التذلل و الرغبة و الرهبة ، و هذا هو روح الدعاء و لبه و مقصوده ، قال الله عز وجل : ( ادعوا ربكم تضرعا وخيفة إنه لا يحب المعتدين ) .

4 - الإلحاح والتكرار وعدم الضجر والملل : ويحصل الإلحاح بتكرار الدعاء مرتين أو ثلاث و الاقتصار على الثلاث أفضل اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه أن يدعو ثلاثا ويستغفر ثلاثا . رواه أبو داود و النسائي .

5 - الدعاء حال الرخاء والإكثار منه في وقت اليسر و السعة ، قال النبي صلى الله عليه و سلم : ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ) رواه أحمد .

6 - التوسل إلى الله بأسمائه الحسنى و صفاته العليا في أول الدعاء أو آخره ، قال تعالى : ( و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) .

7 - اختيار جوامع الكلم و أحسن الدعاء و أجمعه و أبينه ، و خير الدعاء دعاء النبي صلى الله عليه و سلم ، و يجوز الدعاء بغيره مما يخص الإنسان به نفسه من حاجات .

و من الآداب كذلك و ليست واجبة : استقبال القبلة و الدعاء على حال طهارة و افتتاح الدعاء بالثناء على الله عز و جل و حمده و الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم ، و يشرع رفع اليدين حال الدعاء .

و من الأمور المعينة على إجابة الدعاء تحري الأوقات و الأماكن الفاضلة .

فمن الأوقات الفاضلة : وقت السحر و هو ما قبل الفجر ، و منها الثلث الآخر من الليل ، و منها آخر ساعة من يوم الجمعة ، و منها وقت نزول المطر ، و منها بين الأذان و الإقامة .

و من الأماكن الفاضلة : المساجد عموما ، و المسجد الحرام خصوصا .

و من الأحوال التي يستجاب فيها الدعاء : دعوة المظلوم ، و دعوة المسافر ، و دعوة الصائم ، و دعوة المضطر ، و دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب .

أما موانع إجابة الدعاء فمنها :

1- أن يكون الدعاء ضعيفا في نفسه ، لما فيه من الاعتداء أو سوء الأدب مع الله عز و جل ، و الاعتداء هو سؤال الله عز وجل ما لا يجوز سؤاله كأن يدعو الإنسان أن يخلده في الدنيا أو أن يدعو بإثم أو محرم أو الدعاء على النفس بالموت و نحوه . فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ) رواه مسلم .

2 - أن يكون الداعي ضعيفا في نفسه ، لضعف قلبه في إقباله على الله تعالى . أما سوء الأدب مع الله تعالى فمثاله رفع الصوت في الدعاء أو دعاء الله عز و جل دعاء المستغني المنصرف عنه أو التكلف في اللفظ و الانشغال به عن المعنى ، أو تكلف البكاء و الصياح دون وجوده و المبالغة في ذلك .

3 - أن يكون المانع من حصول الإجابة : الوقوع في شيء من محارم الله مثل المال الحرام مأكلا و مشربا و ملبسا و مسكنا و مركبا و دخل الوظائف المحرمة ، و مثل رين المعاصي على القلوب ، و البدعة في الدين و استيلاء الغفلة على القلب .

4 - أكل المال الحرام ، و هو من أكبر موانع استجابة الدعاء ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، و إن الله أمر المتقين بما أمر به المرسلين فقال : ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات و اعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ) و قال : ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب و مطعمه حرام و مشربه حرام و غذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك !! ) رواه مسلم . فتوفر في  الرجل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأمور المعينة على الإجابة من كونه مسافرا مفتقرا إلى الله عز و جل لكن حجبت الاستجابة بسبب أكله للمال الحرام ، نسأل الله السلامة و العافية .

5 - استعجال الإجابة و الاستحسار بترك الدعاء ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول دعوت فلم يستجب لي ) رواه البخاري ومسلم .

6 - تعليق الدعاء ، مثل أن يقول اللهم اغفر لي إن شئت ، بل على الداعي أن يعزم في دعائه و يجد ويجتهد ويلح في دعائه قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ، ليعزم المسألة فإنه لا مستكره له ) رواه البخاري و مسلم  .

ولا يلزم لحصول الاستجابة أن يأتي الداعي بكل هذه الآداب و أن تنتفي عنه كل هذه الموانع فهذا أمر عز حصوله ، و لكن أن يجتهد الإنسان وسعه في الإتيان بها .

ومن الأمور المهمة أن يعلم العبد أن الاستجابة للدعاء تكون على أنواع : فإما أن يستجيب له الله عز وجل فيحقق مرغوبه من الدعاء ، أو أن يدفع عنه به شرا ، أو أن ييسر له ما هو خير منه ، أو أن يدخره له عنده يوم القيامة حيث يكون العبد إليه أحوج . والله تعالى أعلم  .

كيفية الوقاية من العين

شعرت في السنوات الأخيرة بأني مصابة بالعين ، فقد آتاني الله حسن صورة يلفت النظر، .  والحمد لله لكني لا أريد أن تكون حياتي في اضطراب بسبب ذلك.  أقول لك : ليس كل الناس يحمدون الله ويثنون عليه للأشياء التي يعجبون بها ، خصوصا الكفار.  فهل يوجد أمام الفتاة من طريق للتمكن من حماية نفسها من العين بدون (أن تحتاج إلى) تغطية وجهها ؟ هل وضع مقاطع من القرآن يحمي الفرد من الإصابة بالعين ؟ وماذا عن لبس القلائد والتعليقات التي تكون على شكل أعين أو أيدي ؟ فقد سمعت بأن تلك التعليقات تحفظ الفرد لكنها حرام ؟ حياتي أفضل كثيرا الآن بالمقارنة مع ما كانت عليه في السابق حيث كنت لا أتمسك بالإسلام مع أني ولدت مسلمة، فهل يعني هذا أنه بسبب أني مسلمة أفضل فإن العين ، إن أنا كنت غير محظوظة بما يكفي لأن أصاب بها فقد اختفت من روحي (؟)، أم يجب أن يقرأ علي القرآن كي أتخلص منها.  كيف لي أن أحفظ نفسي من أن يصيبني ذلك مرة أخرى؟.

الحمد لله
عليك أن تعرفي أن الحجاب واجب ، وليس لشخص أن يختار من الشرع ما يميل إليه نفسه ، ويترك ما لا تميل إليه نفسه ، لأن الله عز وجل يقول : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) البقرة /208 قال ابن كثير : أمر الله عباده المؤمنين أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه والعمل بجميع أوامره وترك جميع زواجره تفسير ابن كثير 1/566 ، والمؤمنات مَنْهِيّات عن إبداء الزينة لغيرالمحارم ، قال تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) النور/31 ، فامتثال أمر الله بالحجاب يحفظك من العين بإذن الله . في الدنيا ويحفظك من عذاب الله في الآخرة .

أما تعليق مقاطع من القرآن أو غيرها أو لبس أشكال معينة ، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من تعلَّق تمِيمَةً فلا أتَمَّ الله له ، ومن تَعَلَّقَ وَدعَةً فلا ودع الله له " وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل رهط فبايع تسعة ، وأمسك عن واحد , فقالوا : يا رسول الله بايعت تسعة وأمسكت عن هذا ، فقال : " إن عليه تميمة " فأدخل يده فقطعها ، فبايعه وقال : " من تعلق تميمة فقد أشرك " من فتاوى العين والحسد ص 277 .

أما علاج العين والحسد ، فلا شك أن الإنسان متى كان قريباً من الله عز وجل مداوماً على ذكره ، وقراءة القرآن ، كان أبعد عن الإصابة بالعين ، وغيرها من الآفات وأذى شياطين الإنس والجن ، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوِّذ نفسه ، وأعظم ما يتعوذ به المسلم قراءة كتاب الله وعلى رأس ذلك  :

المعوذتان وفاتحة الكتاب وآية الكرسي

ومن التعوذات الصحيحة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ومنها :

( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ) رواه مسلم ( الذكر والدعاء/4881)

وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَيَقُولُ إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ ) رواه البخاري( أحاديث الأنبياء/3120) ، ومعنى الَّلامة : قال الخطابي : المراد به كلُّ داء وآفة تُلمُّ بالإنسان من جنون وخبل . وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " يَا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ فَقَالَ نَعَمْ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللَّهُ يَشْفِيكَ بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ "  رواه مسلم ( السلام/4056) ، ولا  شك أن مداومة الإنسان على أذكار الصباح والمساء ، وأذكار النوم ، وغيرها من الأذكار له أثر عظيم في حفظ الإنسان من العين فإنها حصن له بإذن الله فينبغي الحرص عليها ، ومن أهم العلاجات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخَّصَ في الرُّقية من العين وأمر بها

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : " أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَمَرَ أَنْ يُسْتَرْقَى مِنْ الْعَيْنِ " رواه البخاري ( الطب/5297) ، وما جاء عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : " كَانَ يُؤْمَرُ الْعَائِنُ فَيَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ الْمَعِينُ " رواه أبو داود ( الطب/3382) قال الألباني في صحيح سنن أبي داود صحيح الإسناد برقم 3286 .

هذه بعض الأذكار والعلاجات التي تحفظ بإذن الله من العين والحسد ، نسأل الله أن يعيذنا من ذلك , والله أعلم .

يراجع كتاب زاد المعاد لابن القيم 4/162.

وفي أنفسـكم أفــلا تبصــرون ـ الجهاز التنفسي

الدكتور منصور أبوشريعة العبادي

إن الوظيفة الرئيسية للجهاز التنفسي هي توفير غاز الأوكسجين لكل خلية من خلايا الجسم ومن ثم تخليصها من غاز ثاني أكسيد الكربون الذي تنتجه هذه الخلايا. والأوكسجين عنصر ضروري لإنجاز عملية تحويل المواد الغذائية إلى طاقة تلزم لإجراء مختلف أنواع العمليات الحيوية التي تجري في داخل الخلايا، أو ما يسمى بالحرق أو الهدم، وينتج عن عملية التحويل هذه غاز ثاني أكسيد الكربون. وتقوم مكونات الجهاز التنفسي المختلفة بأخذ الأوكسجين من الجو، ومن ثم يتم إيصاله إلى خلايا الجسم من خلال الدم، والذي يعود محملا بثاني أكسيد الكربون فيقوم الجهاز التنفسي بسحبه من الدم وطرده إلى الجو. وبما أن الجسم لا يمكنه أن يخزن الأوكسجين في داخله فإنه من الضروري تزويده بهذه العنصر الهام بشكل متواصل؛ حيث أن انقطاع وصوله للجسم لمدة ثلاث دقائق في المتوسط يؤدي إلى موت الإنسان، بينما يمكن أن يعيش الإنسان بدون طعام لعدة أسابيع، وبدون ماء لعدة أيام. وإلى جانب هذه الوظيفة الرئيسية يقوم الجهاز التنفسي بوظيفتين ثانويتين: أولاهما استخدام الهواء الخارج من الرئتين لتوليد الأصوات من خلال مروره على الحبال الصوتية ومن ثم الفم والأنف. وثانيهما استخدام الهواء المستنشق المحمل بالمواد المتطايرة من مختلف المصادر للتعرف على روائحها من خلال مستقبلات الشم الموجودة في سقف الأنف.
وهذا ما يوفر له كمية هائلة من المعلومات: أولاً. عن تركيب الهواء في الجو من حيث الغازات التي يحتويها، ونسبة كل منها. وثانياً. عن تركيب خلايا الجسم وما تجري فيه من عمليات حيوية وما تحتاجه وما تنتجه من غازات. وعلى هذا المصمم أن يحسب بدقة بالغة كمية الأكسجين التي يحتاجها الجسم في كل ثانية، وكذلك كمية ثاني أكسيد الكربون التي تنتجه الخلايا؛ وذلك ليحدد أبعاد مكونات جهاز التنفس الذي سيقوم بتصميمه، بحيث يتمكن من تزويد الجسم بكمية الأكسجين التي سبق وأن قام بحسابها، وكذلك الحال مع ثاني أكسيد الكربون.

 ولكي يتمكن هذا المصمم من حساب المساحة الداخلية لجدران الحويصلات الهوائية يلزمه معرفة الضغط الجزيئ للأكسجين وثاني أكسيد الكربون في الهواء الموجود في داخل الرئة وكذلك في الدم وذلك لكي يحدد معدل تبادل هذه الغازات بين الهواء والدم من خلال غشاء الخلايا المبطنة للحويصلات الهوائية. وعلى المصمم هذا أن يقوم بتصميم أغشية خاصة بسماكة بالغة الدقة لجدران الحويصلات والشعيرات الدموية المحيطة بها بحيث يمكن للأوكسجين وثاني أكسيد الكربون من اختراقها بسهولة وبمعدلات كافية. ولقد تمكن العلماء من قياس المساحة الداخلية لجدران الحويصلات الهوائية في الرئتين فوجودها تبلغ في المتوسط سبعين مترا مربعا، ولو طلب من هؤلاء العلماء حساب هذه المساحة نظريا فإني على يقين من أنهم سيواجهون كثيرا من الصعوبات بسبب كثرة العوامل التي حددت هذه المساحة. وإذا كان هذا هو الحال مع العلماء بما يملكون من عقول فكيف يمكن لإنسان عاقل أن يصدق أن تصميم الجهاز التنفسي بما فيه من تعقيد التركيب ومنتهى الكفاءة في الأداء قد تم بالصدفة! وسيكتشف القارئ وهو يقرأ عن مكونات الجهاز التنفسي أن في كل مكون من مكوناته معجزات بينات من حيث تصميم أجزاءه وكفاءتها العالية في القيام بالوظائف المنوطة بها، وسيتيقن أنها صممت من قبل خالق لا حدود لعلمه وقدرته، وهو القائل سبحانه: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } (سورة السجدة 7).
يتكون الجهاز التنفسي من ستة أجزاء رئيسية وهي: الأنف والفم والبلعوم والحنجرة والقصبة الهوائية والرئتين وذلك للقيام بوظائفه الثلاث التي ذكرناها آنفا. فالأنف هو أول محطة من محطات الجهاز التنفسي وهو ذو تركيب بديع، قد تم تصميمه بحيث يخدم الوظائف الثلاث للجهاز التنفسي. ويتكون الأنف (nose) في جزئه الظاهر أو الخارجي من فتحتين أو قناتين متجاورتين تسميان المنخاريين (nares) يوجد بينهما فاصل غضروفي يسمى الحاجز الأنفي أو الوتيرة (nasal septum) والذي يمتد حتى نهاية التجويف الأنفي.



والمنخاران مبنيان من الأعلى من مادة غضروفية مرنة مكسوة بالجلد من الخارج والداخل مما يسهل من تحريك مقدمة أو أرنبة الأنف (nasal tip) وكذلك إغلاق الفتحتين من خلال الضغط على جوانب الأنف وذلك لإخراج المخاط أو لتجنب دخول الروائح الكريهة. إن وظيفة المنخارين هي إدخال الهواء إلى تجويف الأنف وكان يكفي لو ترك الأمر للصدفة أن يكونا مجرد فتحتين في منتصف الوجه وبدون بروز ولكن المصمم هو الله عز وجل الذي أكرم الإنسان بهذا الوجه الجميل من خلال هذا التصميم البديع للجزء البارز من الأنف، والذي يأتي بأشكال لا حصر لها؛ لإحداث هذا التنوع في أشكال وجوه البشر. وينفتح المنخاران على تجويفين واسعين في مقدمة الجمجمة يطلق عليهما التجويف الأنفي (nasal cavity) والذي يحده من الأسفل سقف الفم المكون من الحنك الصلب (hard palate) والحنك الطري (soft palate) ومن الأعلى عظام الجمجمة وعظمة الأنف ومن الخلف والجوانب عظام الجمجمة. ويبرز من الجدارين الجانبيين للتجويف الأنفي ثلاثة قواطع عظمية رقيقة تقع فوق بعضها البعض تسمى الحيود العظمية (nasal turbinate or conchæ) تعمل على تقسيمه إلى تجاويف ثانوية (meatuses) وقد صممت أشكال هذه القواطع بطريقة بديعة بحيث تخدم الوظائف المختلفة للجهاز التنفسي. ويبطن التجويف الأنفي غشاء مخاطي رقيق ومهدب تتخلله شبكة كثيفة من الشعيرات الدموية ويعمل هذا الغشاء على تسخين أو تبريد الهواء الداخل إلى الرئة وكذلك ترطيبه، بينما تقوم الأهداب بتحريك المخاط باتجاه البلعوم. وينمو على الجلد الداخلي لمقدمة الأنف أو المنخار شعر خفيف يعمل على اصطياد ذرات الغبار التي تدخل مع الهواء بينما يقوم السائل المخاطي الذي تفرزه بطانة التجويف الأنفي بامتصاص ذرات الغبار وإخراجها عند التمخط. وتنفتح القناتان الدمعيتان (tear ducts) أسفل الحيد السفلي (inferior turbinate) حيث تمتدان من الحويصلات الدمعية الموجود في مقلتي العينيين.



ويوجد على جوانب التجويف الأنفي أربعة أزواج من التجاويف محفورة داخل عظام الجمجمة تسمى الجيوب الأنفية (Sinuses) وهي مبطنة بغشاء مخاطي مهدب (ciliated mucous membrane). وتتصل الجيوب الأنفية بالتجويف الأنفي من خلال فتحات ضيقة يتم من خلالها إدخال الهواء إليها وإخراج الإفرازات المائية من بطانتها إلى الأنف حيث تعمل هذه الإفرازات على ترطيب الأنف. وأكبر هذه الجيوب هو الجيب الفكي (Maxillary Sinus) والذي يقع على الجانبين السفليين للتجويف الأنفي ويبلغ متوسط حجمه 15 سم مكعب، ومن ثم الجيب الجبهي (Frontal Sinuses) والذي يقع فوقه عند الجبهة ويبلغ متوسط حجمه 12 سم مكعب، ومن ثم الجيب الوتدي (Sphenoidal Sinuses) الذي يقع خلف التجويف الأنفي ويبلغ متوسط حجمه 8 سم مكعب، ومن ثم الجيب الغربالي (Ethmoidal Sinuses or Air Cells) الذي يقع على الجانبين العلويين، وهو مكون من عدد من التجاويف الصغيرة كما هو مبين في الصورة المرفقة. ولم يجزم العلماء بعد بالوظيفة الرئيسية التي صممت من أجلها هذه الجيوب فهم على خلاف فيما إذا كان الهدف منها التخفيف من ثقل عظام الجمجمة أم أنها تعمل كفجوات رنين (resonant cavities) لتحسين نوعية الصوت الذي يصدر من خلال الفم والأنف عند الكلام. ويوجد في سقف التجويف الأنفي رقعتان من طبقة مخاطية يحتوي كل منها على ما يقرب من خمسة ملايين مستقبل شمي (Olfactory receptors) تستخدم في حاسة الشم (Olfactory or smelling sense).
إن الوظيفة الرئيسية للتجويف الأنفي هو الحيلولة دون دخول الهواء من الجو مباشرة إلى الرئة حيث أن درجة حرارة الهواء في الجو تختلف كثيرا عن درجة الحرارة في داخل الرئة التي هي نفس درجة حرارة الجسم وقد يدمر الهواء البارد أو الساخن الخلايا الرقيقة والحساسة المبطنة للحويصلات الهوائية في الرئة. إن أول ما يدخل من الهواء إلى الرئة عند الشهيق هو الهواء الموجود في التجويف الأنفي والذي تساوي درجة حرارته درجة حرارة الجسم تقريبا حيث يتم تسخينه أو تبريده في الفترة ما بين الشهيق والزفير وذلك من خلال الغشاء المبطن لهذا التجويف والمليء بالشعيرات الدموية. وتلعب الحيود أو القواطع الأنفية دورا مهما في تمكين الأنف من القيام بوظائفه فهي أولا تزيد من المساحة الداخلية للتجويف الأنفي بحيث يتم تسخين او تبريد الهواء الموجود فيه وكذلك ترطيبه في وقت قصير وهو الوقت فيما بين الشهيق والزفير. وهي تعمل ثانيا على الحد من دخول الهواء مباشرة من الجو إلى الرئة وبذلك تمكن الجهاز التنفسي من سحب الهواء المكيف الموجود في التجويف الأنفي ويحل محله الهواء القادم من الجو مباشرة.

 أما الوظيفة الثالثة لهذه القواطع فهي بعثرة الهواء المستنشق لكي تمكنه من الوصول إلى مستقبلات الشم الموجودة في سقف التجويف. وكذلك تعمل هذه البعثرة للهواء المستنشق على تمرير جميع أجزائه على السطح المخاطي مرات عديدة لكي يتم تنقيته بشكل كامل من ذرات الغبار ولولا هذه الآلية لتعرضت الرئتين للتلف السريع بسبب تراكم الأوساخ فيها. أما الوظيفة الرابعة للقواطع فتتعلق بتحسين خصائص الصوت الذي يخرج من الفم وكذلك الأنف عند التكلم وذلك بالتعاون مع الجيوب الأنفية. إن البشر بما يملكون من عقول لا يمكنهم أن يفطنوا لكل هذه الوظائف التي يقوم بها التجويف الأنفي، ولولا أنهم درسوا تركيب هذا التجويف دراسات مستفيضة لما تنبهوا لها أبدا. فكيف يمكن لإنسان عاقل مهما بلغ مستوى تعليمه أن يصدق أن تصميم هذا التجويف الأنفي قد تم تصميمه وتصنيعه بالصدفة!
أما المحطة الثانية فهي البلعوم ( Pharynx ) أو الحلق (Throat) وكذلك الزور وهو أنبوب عضلي طوله 13 سم وتتصل به سبع فتحات وهي فتحة الفم الخلفية وفتحتا الأنف الخلفيتان وفتحتا قناتي أستاكيوس وفتحة الحنجرة. وينقسم البلعوم إلى ثلاثة أجزاء وهي الجزء البلعومي الأنفي (Nasopharynx) وهو مبطن بغشاء مهدب كاذب (Pseudosratified ciliated membrane) حيث تساعد هذه الأهداب في تحريك المخاط باتجاه الفم. وفي الجدار الجانبي لهذا الجزء تفتح قناتا أستاكيوس حيث يمر خلال هاتين القناتين كمية قليلة من الهواء إلى الأذن الوسطى للمحافظة على توازن ضغط الهواء على جانبي الطبلة الأذن.



 أما الجزء البلعومي الفمي (Oropharynix) فهو ممر مشترك للهواء والطعام ويوجد فيه زوجان من اللوز وهما لوزتا الحنك أو الفك (Palatine tonsil) ولوزتا اللسان (Lingual tonsil). ويتم فصل هذا الجزء عن التجويف الفمي من خلال اللهاة (Uvula) وهي نهاية الحنك الطري وذلك لتأمين مرور الهواء من خلاله أثناء مضغ الطعام. ويقوم الحنك الطري واللهاة كذلك بإغلاق الجزء البلعومي الأنفي أثناء بلع الطعام لكي لا يصل أي جزء منه إلى التجويف الأنفي. أما الجزء البلعومي الحنجري (Laryngopharynix) فهو الجزء الذي يتفرع فيه البلعوم إلى جزئين أحدهما بشكل مباشر إلى المرئ والآخر إلى الحنجرة (Larynx) من خلال بوابة يتم التحكم بفتحها وإغلاقها باستخدام لسان المزمار. إن الوظيفة الرئيسية للبلعوم هي استخدامه كممر مشترك للهواء القادم من الأنف الى القصبة الهوائية وكممر للغذاء القادم من الفم الى المرئ. ويقوم لسان المزمار (epiglottis) بإغلاق مجرى التنفس عند فتحة الحنجرة بشكل تلقائي عندما يقوم الإنسان ببلع الطعام فيحول دون دخوله إلى القصبة الهوائية. وتتجلى حكمة الخالق سبحانه وتعالى في تصميم هذا المجرى المشترك؛ حيث أنه يحقق غايتين بالغتي الأهمية: فالأولى استخدام الفم كبديل عن الأنف في عملية التنفس، فعندما يصاب الإنسان بالزكام قد تنغلق فتحتا الأنف كليا بسبب تراكم الإفرازات فيهما، وفي هذا الحال يقوم الفم مقام الأنف في إدخال الهواء إلى الرئتين.

أما الغاية الثانية فهي استخدام الهواء الذي يخرج من الرئتين في عملية إحداث الأصوات التي تصدرها الحبال الصوتية والتي تمر على مكونات الفم لتنتج الكلام.



 أما الوظيفة الثانوية للبلعوم فهي استخدامه كفجوة رنينية (Resonating chamber) تعمل على تقوية وترشيح بعض الترددات التي تولدها الحبال الصوتية مما يعمل على تحسين نوعية الصوت.
أما المحطة الثالثة في الجهاز التنفسي فهي الحنجرة (larynx) أو صندوق الصوت (voice box) وهي صندوق غضروفي يقع في مقدمة الرقبة على مستوى الفقرات العنقية الثالثة إلى السادسة. ويبلغ متوسط طولها في الرجال 44 ملليمتر وفي النساء 36 ملليمتر بينما يبلغ متوسط قطرها 30 ملليمتر. وبسبب وظائفها المتعددة فإن تركيبها الميكانيكي فيه شيء من التعقيد ولكنها مصممة بشكل بالغ الإتقان ولا زال العلماء يعملون على كشف أسرارها خاصة فيما يتعلق بوظيفتها الرئيسية وهي توليد الصوت.

والحنجرة مبنية من ستة أنواع من الغضاريف ثلاثة منها فردية بينما الثلاثة الأخرى زوجية أي أنها تحتوي على تسعة قطع من الغضاريف مختلفة الأشكال لكل منها وظيفته الخاصة. فالغضاريف الفردية هي أولا الغضروف الدرقي (thyroid cartilage) وهو أكبر الغضاريف حجما ويطلق عليه أيضا اسم تفاحة أدم (Adam's apple). يتكون هذا الغضروف من لوحين مقوسين على شكل شبه منحرف ملتحمين عند المقدمة ومفتوحين في الخلف وهو يشكل النصف الأمامي من صندوق الحنجرة ويوجد في أعلاه وعند مقدمته ثلمة (notch). ويبرز من النهاية الخلفية لكل من اللوحين الدرقيين قرنان علويان يرتبطان بالعظم اللامي (Hyoid bone) من خلال عضلات تعمل على رفعه عند انقباضها أما السفليان فيلتحمان بسطح الغضروف الحلقي أو الخاتمي. وتبلغ الزاوية بين لوحي الغضروف الدرقي 90 درجة عند الرجال و 120 درجة عند النساء مما يجعله أكثر بروزا عند الرجال بينما لا يكاد يظهر هذا البروز عند النساء وذلك لأغراض جمالية.



 إن هذا الاختلاف في تصميم الحنجرة لدى الرجال والنساء رغم أن الوظيفة واحدة وذلك مراعاة للناحية الجمالية يفحم كل من يجحد بأن الله عز وجل هو الخالق فلا يمكن لأي عاقل أن يدعي أن ذلك قد تم بالصدفة بل لو وكل الأمر للبشر لتصميم الحنجرة لما أخذوا هذا الاختلاف بعين الاعتبار. أما الغضروف الفردي الثاني فهو الغضروف الحلقي أو الخاتمي (cricoid cartilage) ويقع تحت الغضروف الدرقي وهو على شكل الخاتم (ring) فهو عريض في الجهة الخلفية وشحيح في المقدمة. أما الغضروف الفردي الثالث فهو لسان المزمار (epiglottis) وهو على شكل ورقة النبات أو الملعقة، وقاعدته مثبتة في الجدار الأمامي للغضروف الدرقي تحت الثلمة مباشرة ويقوم لسان المزمار بإغلاق الحنجرة تماما عند بلع الطعام من خلال العضلات التي تتحكم بحركته.

أما الغضاريف الزوجية فهما الغضروفان الطرجهاريان (arytenoid cartilages) وهما غضروفان هرميا الشكل مثبتان على الحافة العليا للغضروف الحلقي من الناحية الخلفية وعليهما يتم تثبيت أحد طرفي الحبال الصوتية الحقيقية وكذلك الكاذبة. وهذان الغضروفان يمكن تحريكهما بعضلات خاصة موجودة في الجزء الخلفي من الحنجرة وذلك لفتح وإغلاق الأحبال الصوتية وكذلك شدهما وإرخاؤهما. أما الغضروفان القرنيان (corniculate cartilages) والغضروفان الأسفينيان (cuneiform cartilages) فهي غضاريف مثبتة فوق الغضروفين الطرجهارين لتكونا الحافة السفلى والجانبية لفتحة الحنجرة وعليهما يطبق غضروف لسان المزمار عند إغلاق الفتحة عند بلع الطعام.



ويوجد في منتصف تجويف الحنجرة زوجان من الأغشية يقعان فوق بعضهما البعض ويتكون كل غشاء من ثنيتين (folds) تبرزان من الجدار الداخلى للحنجرة وتكون الثنيتان فيما بينهما فتحة طولية تمتد من مقدمة الحنجرة إلى مؤخرتها ويتم التحكم بمقدار الفتحة بعضلات مربوطة بالغضاريف الطرجهارية. فالغشاء السفلي يسمى الحبال أو الأوتار الصوتية الحقيقية (true vocal folds) بينما يسمى الغشاء العلوي بالحبال الصوتية الزائفة (false vocal folds). ويتم تثبيت أحد أطراف هذه الأغشية على السطح الداخلي للغضروف الدرقي عند مقدمته بينما يتم تثبيت الطرف الآخر على الغضروفان الطرجهاريان بحيث يتم ربط كل ثنية بالغضروف الذي يقابلها. ويتم التحكم في مقدار اتساع الفتحتين من خلال تحريك عضلات مرتبطة بالغضروفين الطرجهاريين تقوم بابعادهما أو تقريبهما من بعضهما البعض وكذلك تعمل على شد أو إرخاء الحبال الصوتية وذلك لأغراض تغيير تردد النغمات التي تولدها.



ومن الجدير بالذكر أن الفتحتين الموجودتين في الحبال الصوتية الحقيقية والكاذبة تفتحان وتغلقان معا وهما مفتوحتان بكامل اتساعهما في الوضع الطبيعي وذلك لتمرير هواء التنفس أما عند الكلام فإنه يتم إغلاقهما جزيئا لتوليد الصوت. إن وظيفة الحبال الصوتية الزائفة هو منع دخول الأجسام الغريبة إلى الرئتين إذا ما حصل بالخطأ أن تجاوزت هذه الأجسام بوابة الحماية الرئيسية وهي لسان المزمار حيث تبدأ الحنجرة بعملية السعال أو الكحة (cough) لإخراج الجسم الغريب. أما الحبال الصوتية الحقيقية فوظيفتها الرئيسية هو توليد الأصوات من خلال اهتزازها بفعل تيار الهواء الذي يمر عليها خارجا من الرئتين. ويتراوح طول الحبال الصوتية عند الرجال بين 17.5 و 25 ملليمتر وعند النساء بين 12.5 و 17.5 ملليمتر بينما يتراوح سمكها بين 2 و 3 ملليمتر. وعندما يمر الهواء الخارج من الرئتين بقوة كافية على الحبال الصوتية فإنها تبدأ بالاهتزاز منتجة نغمات صوتية (sound tones) بترددات محددة تتحدد بشكل رئيسي من طول الحبال الصوتية ومقدار شدهما وكذلك قوة تيار الهواء الذي يحركها. وبما أن تردد الصوت المتولد من الوتر يتناسب عكسيا مع طول الوتر فإن التردد ألأساسي (fundamental frequency) الذي يتولد في حنجرة الرجال يبلغ في المتوسط 125 هيرتز أو ذبذبة في الثانية بينما يبلغ 210 هيرتز عند النساء بسبب قصر حبالهن الصوتية ويبلغ عند الأطفال 300 هيرتز. وإلى جانب التردد الأساسي تولد الحبال الصوتية ترددات كثيرة تسمى المتناغمات (harmonics) لها قيم تساوي مضاعفات التردد الأساسي وتمتد حتى 20 ألف هيرتز. إن الصوت الذي يتولد من الحبال الصوتية يحتوي على ترددات كثيرة غير مرغوب فيها ولكن بمروره على تجاويف مجرى التنفس التي تعمل كفجوات رنين (Resonating chamber) فإنه يتم ترشيح كثير من هذه الترددات فيصبح الصوت أكثر نقاءا. ومن أهم هذه التجاويف تجويف البلعوم والفم والأنف والحنجرة والقصبة الهوائية والجيوب الأنفية وبسبب اختلاف أحجام هذه التجاويف فإنها تقوم بترشيح معظم الترددات غير المرغوب فيها على مدى الطيف الترددي للصوت.



أما المحطة الرابعة فهي القصبة الهوائية ( Trachea ) وهي أنبوبة أسطوانية الشكل يتراوح طولها بين 10 سم و 16 سم بينما يتراوح قطرها بين 2 سم و 3 سم وتقع أمام المريء مباشرة وتمتد من الحنجرة عند مستوى الفقرة الرقبية السادسة إلى مستوى الفقرة الصدرية الخامسة حيث تتفرع إلى الشعبتين الهوائيتين. ويتكون جدار القصبة الهوائية من حلقات غضروفية دائرية غير مكتملة من الجهة الخلفية على شكل حذوة الفرس يبلغ عددها 20 حلقة. ويوجد في الجزء المفتوح من الحلقة ألياف عضلية ملساء (fibroelastic ligaments) تربط نهايات الحلقة الغضروفية وتعمل على تضييق قطر الحلقة عند انقباضها. إن عدم اكتمال الحلقات الغضروفية في القصبة الهوائية يدل على أن مثل هذا التصميم البديع لا يمكن أن يصدر إلا عن خالق لا حدود لعلمه وقدرته يعلم سبحانه أن هذا الأنبوب الهوائي (wind pipe) عليه أن يقوم بمهام مختلفة تتطلب مواصفات قد تكون متضاربة.

فالمهمة الأولى والرئيسية هي تمرير الهواء إلى الرئتين وهي تتطلب أن يكون الأنبوب مفتوحا بشكل دائم، وأن يكون قطره أكبر ما يكون وهذا يتطلب تصنيع كامل جداره من مادة صلبة كالغضاريف مثلا. ولكن المهام الأخرى للقصبة تتطلب عكس ذلك فإخراج البلغم من الرئتين عند إصابتها بالالتهاب يتطلب أن يكون الأنبوب مرن وذي قطر صغير لكي يزيد من ضغط الهواء فيه عند السعال أو الكحة وكذلك عند العطاس (sneeze reflex sneezing) وذلك لكي يدفع البلغم بقوة إلى الخارج. وكذلك فإن توليد الصوت في الحنجرة يتطلب تيارا هوائيا قويا يعمل على اهتزاز الحبال الصوتية بقوة كافية، وهذا أيضا يتطلب أن يكون الأنبوب ضيق لرفع ضغط الهواء فيها. أما المهمة الرابعة والتي قد لا تخطر على البال فهي تسهيل حركة الطعام في المريء والذي يقع خلف القصبة الهوائية مباشرة أي أن جداريهما متلاصقين. ولكي تحقق القصبة كل هذه المتطلبات كان هذا التصميم البديع لها فهي مكونة كما أسلفنا من حلقات غضروفية تضمن أن تكون مفتوحة بشكل دائم ولكن هذا الحلقات غير مكتملة وقد تم استبدال الجزء المفقود من الغضروف بعضلات ملساء تعمل عند انقباضها على شد أطراف الحلقة فيضيق قطرها. إن تضيق قطر القصبة لا يحدث إلا عند الكلام أو السعال أو العطاس والذي يتم فقط في حالة إخراج الهواء من الرئتين أي الزفير بينما يكون قطرها أكبر ما يكون في حالة إدخال الهواء إلى الرئتين أي الشهيق. إن الجزء الخالي من المادة الغضروفية قد تم اختيار مكانه بحيث يكون هو الجزء الملامس للمريء، وهذا يتيح للمريء أن يتمدد عند بلع الطعام، ولو كان الجزء الغضروفي هو الملامس لما أمكن للمريء أن يتمدد، فسبحانه من خالق لطيف خبير. وقد يسأل سائل عن السبب في تصنيع القصبة الهوائية من حلقات غضروفية وليس من صفيحة غضروفية والجواب على ذلك أن القصبة الهوائية بوجود الحلقات الغضروفية يمكنها أن تتمدد وتتقلص في الاتجاه العامودي بسبب وجود عضلات ملساء بين هذه الحلقات. إن مثل هذا التمدد والتقلص للقصبة الهوائية ضروري جدا لتأدية بعض المهام كالسماح للحنجرة بالتحرك إلى الأعلى عند بلع الطعام لكي يتم إغلاق فتحتها بشكل محكم من قبل لسان المزمار.




 أما المهمة الثانية فهي السماح للرئة بالتحرك إلى الأعلى عند العطاس والسعال لكي تقوم بدفع الهواء بقوة إلى الخارج. أما السبب الأخير فإن عملية تضييق القصبة الهوائية فيما لو صنعت من صفيحة غضروفية ستكون صعبة حتى لو كانت غير كاملة الاستدارة. ويبطن جدار القصبة الهوائية مادة طلائية مهدبة كاذبة (pseudostratified ciliated epithelium) تقوم بإفراز المواد المخاطية التي تساعد على ترطيب الهواء وتنقيته من الشوائب بينما تقوم الأهداب بالتذبذب من الأسفل إلى الأعلى لدفع الإفرازات المخاطية وإخراجها عن طريق الفم.
وتتفرع القصبة الهوائية عند نهايتها إلى فرعين كبيرين من الشعب الهوائية وهما الشعبتان الأوليتان اليمنى واليسرى (Right and left primary bronchus) حيث تدخل كل شعبة منهما إلى إحدى الرئتين فيما بينهما عند نهاية الثلث الأعلى تقريبا. وفي داخل الرئتين تتفرع كل شعبة من هاتين الشعبتين إلى شعب ثانوية (Secondary bronchus) وهي ثلاثة شعب في الرئة اليمنى تذهب لفصوصها الثلاث وشعبتين في الرئة اليسرى تذهب لفصيها الاثنين. وتتفرع الشعب الثانوية داخل كل فص من فصوص الرئة إلى فروع أصغر ثم أصغر لتكون ما يعرف بالشجيرة الشعيبية (Bronchial tree). ويشبه تركيب الشعب الهوائية الأولية والثانوية تركيب القصبة الهوائية إلا إن غضاريفها كاملة الإستدارة حيث أن مهمتها الوحيدة هو تمرير الهواء. وفي الفروع المتوسطة من الشجرة يتم استبدال الغضاريف بصفيحة غضروفية بينما تختفي هذه الصفائح تماما في الأفرع الصغيرة والتي تعرف بالشعيبات (Bronchioles) حيث تتكون جدران هذه الشعيبات من ألياف عضلية ملساء.
أما المحطة النهائية والرئيسية في الجهاز التنفسي فهما الرئتان (Lungs) واللتان تقعان في أعلى التجويف الصدري فوق الحجاب الحاجز ويفصل بينهما القلب والشعبتان الهوائيتان الأوليتان ويبلغ متوسط وزنهما معا كيلوجرام واحد. والرئة الواحدة لها شكل شبه مخروطي ترتكز قاعدتها على الحجاب الحاجز وتنقسم كل رئة إلى فصوص (Lobes) من خلال أخاديد تبدو واضحة على سطحها فالرئة اليمنى أكبر حجما من اليسرى وتتكون من ثلاثة فصوص بينما تتكون الرئة اليسرى من فصين فقط وذلك بسبب وجود قسم من القلب في نفس الحيز الذي تحتله الرئة اليسرى في القفص الصدري. ويتكون كل فص من هذه الفصوص من حجر صغيرة تعرف بالفصيصات (Lobules) ويغلف كل فصيص نسيج ضام مطاطي يحتوى على كثير من الأوعية الليمفاوية والأوردة والشرايين ولذا فإن الرئة تبدو كالإسفنجة. ويحيط بالرئتين داخل التجويف الصدري غشاء ليفي مصلي أملس يسمي الغشاء البلوري (pleura) يتكون من طبقتين تتألف كل طبقة منهما من صف واحد من الخلايا الطلائية وتلتصق الطبقة الداخلية أو الحشوية (visceral pleura) بالرئتين بينما تلتصق الطبقة الخارجية (parietal pleura) بالجدار الداخلي للقفص الصدري. ويوجد بين طبقتي الغشاء البلوري تجويفا يسمى التجويف الجنبي (Pleural cavity) والذي يحتوى على سائل مصلي (Serous fluids) يساعد على تكوين سطح انزلاقي للرئتين داخل القفص الصدري. وهذا الغشاء يحمي الرئتين من الاحتكاك بجدار القفص الصدري عند انتفاخهما في عملية التنفس وكذلك يخفف من أثر حركات نبض القلب علي الرئتين. أما الوظيفة الأهم للغشاء البلوري فهي العمل على تمدد الرئة مع تمدد القفص الصدري فعندما يتمدد القفص فإنه يسحب معه الطبقة الخارجية للغشاء فيبعده عن الطبقة الداخلية والذي يؤدي إلى هبوط الضغط في التجويف الجنبي مما يؤدي إلى تمدد الرئتين بسبب ارتفاع ضغط الهواء فيها عن الضغط في التجويف الجنبي.
إن أهم مكونات الرئة هي الشعيبات الهوائية والتي تتكون جدرانها من خلايا طلائية حرشوفية مسطحة الشكل بدلا من الخلايا العادية الكروية الشكل. وتبرز من جدران هذه الشعيبات تجاويف صغيرة كروية الشكل كالبالونات تسمى الأسناخ الرئوية أو الحويصلات الهوائية (Alveoli) وتتكون جدرانها من طبقة واحدة من نوعين من الخلايا. فالنوع الأول وهي الأكثر عددا فتسمى الخلايا الحرشوفية البسيطة (simple squamous epithelium) وهي خلايا مسطحة الشكل رقيقة الجدران ومن خلالها يتم تبادل الغازات مع الدم. أما النوع الثاني وهي الأقل عددا فهي أيضا خلايا حرشوفية مهمتها إفراز مواد لها توتر سطحي عالي (surfactant) تعمل على إبقاء هذه الحويصلات في حالة الانتفاخ وتعمل كذلك على تجديد ما يتلف من خلايا. ويبلغ عدد هذه الحويصلات في الرئتين 300 مليون حويصلة يتراوح قطر الواحدة منها بين 0,1 و 0,2 مم وتبلغ مساحة السطح الداخلى لجميع هذه الحويصلات ما يقرب من سبعين متر مربع وذلك لكي تتمكن الرئة من امتصاص الكمية اللازمة من الأوكسجين من الهواء وكذلك طرد ثاني أكسيد الكربون. وتكون الحويصلات الهوائية التي تشترك في شعبة هوائية واحدة ما يسمى بالكيس الحويصلي أو السنخي (Alveolar sac) وله شكل أشبه ما يكون بقطف العنب. ويحيط بكل حويصلة من هذه الحويصلات شبكة كثيفة من الشعيرات الدموية تعمل على عملية تبادل غازي الأوكسجين وثاني أكسيد الكربون بين الهواء الموجود في الحويصلات والدم الموجود في هذه الشعيرات وذلك عبر جدرانها المشتركة. ويوجد في الحيز الذي بين الحويصلات أنسجة ضامة غنية بألياف مرنة (elastic fibers) تعطي الرئتين الطبيعة المطاطية التي تتميز بها والتي تسهل من عملية انتفاخها. إن الشريان الرئوي القادم من القلب عليه أن يتفرع إلى ثلاثمائة مليون فرع يصل كل واحد منها إلى إحدى الحويصلات ثم يتفرع كل فرع منها إلى شبكة كثيقة من الشعيرات الدموية تغطي كامل سطح الحويصلة التي لا يتجاوز قطرها 0.2 مم. ومن ثم تبدأ هذه الشعيرات الدموية بالاتحاد من جديد وهي على سطح الحويصلة لتكون فرع وريدي ومن ثم تبدأ هذه الأفرع الوريدة التي يبلغ عددها أيضا 300 مليون فرع بالاتحاد التدريجي لتكون الوريد الرئوي الذاهب إلى القلب. إن تمديد هذه الشبكة الهائلة من الأوعية الدموية من حيث عددها وكذلك صغر أقطارها ومن حيث وصول كل فرع منها إلى هدفها المنشود وهي الحويصلات الهوائية عمل يعجز أن يقوم به البشر ولو اجتمعوا له، ومن السخافة أن يدعي مدعي أن ذلك قد تم بالصدفة، بل إن من قام بهذا التصميم البديع خالق عليم قدير سبحانه وتعالى.



تتم عملية التنفس من خلال توسيع وتضييق القفص الصدري (Thoracic cage‏) وليس من خلال حركة ذاتية للرئتين فهما لا تحتويان على عضلات خاصة لإحداث مثل هذه الحركة. ويتكون القفص الصدري من اثني عشر زوج من زوائد عظمية تسمى الضلوع (ribs) تربطها ببعضها عضلات الضلوع أو العضلات الوربية (Intercostal muscles) وهو مخروطي الشكل له فتحتان العلوية منهما ضيقة وتمر منها القصبة الهوائية والمريء والأوعية الدموية والأعصاب. أما الفتحة السفلية فهي واسعة وهي مغلقة بالكامل بعضلات الحجاب الحاجز (Diaphragm) الذي يفصل التجويف الصدري عن التجويف البطني. وتتم عملية التنفس بشكل متواصل ودوري من خلال عمليتين متعاقبتين وهما عملية الشهيق (Inspiration) وفيها تنقبض عضلات الحجاب الحاجز وعضلات الضلوع فيهبط الحجاب الحاجز إلى الأسفل وترتفع الضلوع إلى الأعلى فيتسع بذلك تجويف القفص الصدري مما يجعل الهواء يدخل إلى الرئتين نتيجة انخفاض ضغط الهواء داخلهما وهي عملية تحتاج لبذل كمية من الطاقة. أما في عملية الزفير (Expiration) فإن عضلات الضلوع والحجاب الحاجز تنبسط وتعود لوضعها الطبيعي فيقل بذلك حجم التجويف الصدري فيضغط على الرئتين مما يؤدي إلى طرد الهواء للخارج وهي عملية سلبية تتم بدون بذل أي جهد عضلي ولا تحتاج للطاقة. وتبلغ السعة القصوى للرئتين 6000 مم أي ستة لترات من الهواء وتسمى هذه السعة الكلية للرئة (Total lung capacity) أما كمية الهواء الموجودة في الرئة في الوضع الطبيعي فهي ثلاثة لترات تقريبا. ويبلغ حجم الهواء الذي يدخل الرئتين ويخرج منها في كل دورة وذلك في وضع الراحة ما يقرب من 500 مم ويسمى هذا الحجم بالحجم الموجي أو المدي (Tidal volume) ولكن من الممكن زيادة هذا الحجم إلى ما يقرب من 2500 مم أي لتران ونصف من الهواء وذلك عند القيام بشهيق عميق بعد شهيق اعتيادي ويسمى هذا الحجم بالحجم الشهيقي الإحتياطي (Inspiration reserve volume). ويمكن طرد كمية من الهواء بعملية زفيرية قوية بعد عملية زفيرية اعتيادية بمقدار 1500مم ويعرف هذا بالحجم الزفيري الإحتياطي (Exspiratory reserve volume).


وعند القيام بمجهود شاق كالعمل أو الرياضة فإن كمية الهواء المستنشق قد تصل إلى 4500 مم وتسمى هذه بالسعة الحيوية (Vital capacity). أما كمية الهواء الذي يتبقى في الحويصلات الهوائية بعد أعمق زفير والتي تساوي 1500 مم فيسمى الحجم المتبقي (Residual volume). وبما أن الهواء المستنشق لا يصل بكامله الى الحويصلات الهوائية بل يتبقى ما مقداره 150 مم في المجاري التنفسية لا يشترك في تزويد الدم بالأكسجين ويسمى هذا بالحيز الميت (dead space).
إن سرعة أو معدل التنفس تتحدد بناءا على كمية الأوكسجين الذي تحتاجه خلايا الجسم لإجراء عملياتها الحيوية المختلفة وكذلك على كمية ثاني أكسيد الكربون التي تنتجها. ويتراوح معدل التنفس عند الإنسان البالغ في حالة الراحة بين 12 و 18 مرة في الدقيقة ويزداد هذا الرقم إلى الضعف عند قيام الجسم ببذل مجهود ما كالعمل أو الرياضة. ويزداد معدل التنفس مع زيادة كثافة عمليات الأيض أو التمثيل الغذائي (Metabolism) فالأجسام الكبيرة تحتاج لمعدل تنفس أعلى من الأجسام الصغيرة. ويزداد كذلك مع المجهود العضلي او الحركي الذي يبذله الجسم فمعدل التنفس يزداد عند الركض أو العمل بشكل كبير عن المعدل الطبيعي فقد يصل إلى ثلاثين مرة في الدقيقة. ويرتبط معدل التنفس مع عمر الكائن الحي فالأطفال لهم معدل تنفس أعلى كثيرا من البالغين وذلك لزيادة معدل التكاثر الخلوي في الأطفال مقارنة بالبالغين وهو أعلى ما يكون عند الرضع حيث يبدأ بمعدل 50 مرة في الدقيقة ثم يبدأ بالتناقص مع زيادة عمر الطفل. ويلعب الموقع الجغرافي وطبيعة المناخ دورا مهما في تحديد معدل التنفس لدى الإنسان فنسبة الأوكسجين في الهواء تقل مع الارتفاع عن مستوى سطح البحر ومع زيادة الحرارة والرطوبة النسبية في الجو. ويتم التحكم بمعدل التنفس بطريقة لإرادية ولكن يمكن للإنسان أن يتدخل إراديا بهذا المعدل لفترات زمنية محدودة ولهذا فإنه يوجد في الدماغ أكثر من مركز للتعامل مع عملية التنفس. فمركز التحكم الرئيسي (Breathing control center) موجود في النخاع المستطيل (Medulla oblongata) ويقوم هذا المركز بتوليد النبضات العصبية الرتيبة التي تحكم معدل التنفس (medullary rhythmicity area). ويوجد في منطقة الجسر (pons) مركزان للتحكم أحدهما للتحكم في عملية الشهيق (apneustic area) والآخر للتحكم في عملية الزفير (pneumotaxic area). ويتلقى هذان المركزان إشارات عصبية من مستقبلات حسية كيميائية (chemoreceptors) موجودة حول الشريان التاجي والشريان السباتي تعمل على قياس مستوى تركيز الأوكسجين وثاني اكسيد الكربون الخارج من القلب وكذلك تركيز حامض الكربونيك في الدم. ثم يقوم هذان المركزان بمعالجة هذه الإشارات العصبية ويقومان بإرسال إشارات عصبية إلى مركز التحكم الرئيسي في النخاع المستطيل لزيادة أو تقليل معدل وعمق التنفس فيقوم بدوره بإرسال إشارات تحكم عصبية إلى الحجاب الحاجز وكذلك عضلات الضلوع لزيادة معدلات انبساطها وانقباضها. وإلى جانب المستقبلات الحسية الكيميائية يوجد مستقبلات حسية ميكانيكية (proprioreceptor or stretch receptor) موجودة في عضلات الصدر والحجاب وفي بعض عضلات الجسم تقوم بإرسال إشاراتها للمساعدة في ضبط معدل وعمق التنفس. ففي حالة الحركة فإن المستقبلات الحركية الموجودة في العضلات هي المسؤلة عن معدل وعمق التنفس، ولا ينتظر مركز تحكم التنفس الإشارات القادمة من المستقبلات الكيميائية حيث أنها تأتي متأخرة عندما تحس بنقص الأكسجين. ويوجد مستقبلات حسية أخرى موزعة في مختلف أنحاء الجسم تعمل على ضبط التنفس عند التغوط والألم وارتفاع درجة الحرارة والإثارات العاطفية والخوف وغير ذلك. ويتم إرسال النبضات التي تتحكم بعضلات التنفس من خلال العصب الرئوي (phrenic nerve) الذي يخرج من الحبل الشوكي من بين الفقرات العنقية الثانية والرابعة. وعلى الرغم من أن عملية التنفس تتم بشكل لا إرادي إلا أن الإنسان بإمكانه أن يتحكم لفترات محددة بمعدل التنفس وكذلك عمق النفس حيث يمكنه حبس نفسه لقترة زمنية قصيرة أو أخذ نفس عميق وذلك لأغراض مختلفة: كالغوص في الماء، أو منع دخول الروائح الكريهة، أو شم الروائح الزكية أو غير ذلك. إن التحكم الإرادي في عملية التنفس يتم من خلال مراكز موجودة في القشرة الدماغية حيث تقوم بإرسال إشارات إلى مركز التحكم الرئيسي للتنفس في النخاع المستطيل، وذلك لوقف عملية التنفس الطبيعية واستبدالها بنمط جديد يتم فيه التحكم بعضلات التنفس تحت سيطرة هذه الإشارات. ويلزم التحكم الإرادي في التنفس لأغراض كثيرة كوقف التنفس لفترات قصيرة أو لزيادة معدله أو عمقه، أو في توليد الكلام أو الضحك أو السعال.
يتم نقل الأوكسجين من الرئتين إلى خلايا الجسم ونقل ثاني أكسيد الكربون من خلايا الجسم إلى الرئتين من خلال دورتين دمويتين تحدثان في الجهاز الدوري: وهما الدورة الدموية الكبرى، والدورة الدموية الصغرى.



 ففي الدورة الدموية الكبرى يخرج الدم المؤكسد من البطين الأيسر إلى جميع أعضاء الجسم ثم يعود دما غير مؤكسد إلى الأذين الأيمن. أما في الدورة الدموية الصغرى فيخرج الدم غير المؤكسد من البطين الأيمن إلى الرئتين ثم يعود دما مؤكسدا إلى الأذين الأيسر. ويتم تبادل غازي الأكسجين وثاني أكسيد الكربون بين الهواء الموجود في الحويصلات الهوائية والدم الموجود في الشعيرات الدموية المحيطة بها وكذلك بين السائل ما بين الخلوي والدم الموجود في الشعيرات الدموية الممتدة بين خلايا الجسم من خلال الانتشار البسيط.
أما عملية نقل الأكسجين من الرئتين إلى خلايا الجسم ونقل ثاني أكسيد الكربون من خلايا الجسم إلى الرئتين فتتم بواسطة بروتين الهيموجلوبين (Hemoglobin) الموجود في خلايا الدم الحمراء (red blood cells) والذي يشكل 97 بالمائة من وزنها الجاف. إن السر الأعظم في عملية النقل هذه تكمن في قدرة الهيموجلوبين على الإتحاد بالأكسجين أو ثاني أكسيد الكربون تحت ظروف معينة والإنفكاك عنهما تحت ظروف أخرى. ويتكون جزيئ الهيموجلوبين من مجموعتين هما:  مجموعة الهيمو (heme group)، وهو جزيئ صغير نسبيا يحتوي على ذرة حديد واحدة، ومجموعة البروتين وهي سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية تلتف حول بعضها البعض وحول جزيئ الهيمو لتعطي الهيموجلوبين شكله المميز وخصائصه الكيميائية الفريدة. يمكن لجزيئ الهيموجلوبين الواحد أن يحمل أربع جزيئات من الأكسجين، أي أن الجرام الواحد من الهيموجلوبين يمكنه حمل 1.34 مللي ليتر وهذا يزيد بسبعين ضعف كمية الأوكسجين التي يمكن أن تحملها بلازما الدم فيما لو تم نقله من خلال الذوبان فيها. ولولا هذه الطريقة الفريدة في نقل الأكسجين باستخدام الهيموجلوبين للزم زيادة كمية الدم التي تمر على الرئتين إلى سبعين ضعف الكمية الحالية وهذا يتطلب رفع معدل دقات القلب إلى سبعين ضعف معدله الطبيعي إذا ما أبقينا على نفس الحجم للقلب. فهل يمكن لإنسان عاقل أن يعتقد أن هذه الطريقة قد حدثت بالصدفة وأن تصميم جزيئ الهيموجلوبين قد تم بالصدفة رغم أن كثير من العلماء قد أفنوا أعمارهم وهم يدرسون تركيبه وطريقة عمله ولا زالت بعض أسراره مجهولة.



أما خلية الدم الحمراء التي تحتوي على 270 مليون جزيئ هيموجلوبين فإن في تصميم شكلها ما يؤكد على أن الذي صممها عليم خبير سبحانه وتعالى فقد تم اختيار الشكل بحيث يكون له أكبر مساحة سطح ممكنة وبأقل حجم لكي يتسنى وضع أكبر عدد ممكن من جزيئات الهيموجلوبين عليه لكي تمسك بأكبر عدد ممكن من جزيئات الأكسجين. وخلية الدم الحمراء لا تحتوي على نواة وهي على شكل قرص بسطحين مقعرين (biconcave disks) أي على شكل الكعكة ويبلغ قطرها 7,5 ميكرومتر وسمكها الخارجي عند أطرافها 2 ميكرومتر ومساحتها 136 ميكرومتر مربع . ويحتوي الملليمتر المكعب الواحد من الدم خمسة ملايين خلية دم حمراء في المتوسط ويبلغ مجموع ما يحتويه الدم في جسم الإنسان من خلايا الدم الحمراء ما متوسطه 25 تريليون. إن متوسط عمر خلية الدم الحمراء يبلغ في المتوسط ثلاثة أشهر ولذا فإنه يلزم إنتاج خلايا جديدة لتعويض ما يموت منها وتتم عملية إنتاج هذه الخلايا في نخاع العظام حيث ينتج منها ما متوسطه مليوني خلية في الثانية الواحدة.
إن عملية تبادل غازي الأكسجين وثاني أكسيد الكربون في الحويصلات الهوائية وفي خلايا الجسم تتم من خلال الإنتشار البسيط (Simple Diffusion ) واعتمادا على القدرة العجيبة للهيموجلوبين على الاتحاد مع أحد هاذين الغازين تحت ظروف محددة. ففي الدم غير المؤكسد الوارد إلى الرئتين من القلب يبلغ الضغط الجزييئ للأكسجين (PO2) حوالي 40 مم زئبق، وضغط ثاني اكسيد الكربون PCO2) 54) مم زئبق بينما يبلغ ضغط الأكسجين في الحويصلات الهوائية 100 مم زئبق وثاني اكسيد الكربون 40 مم زئبق. وبما أن ضغط الأكسجين في الحويصلات الهوائية أعلى منه في الدم فإنه سينتقل منها إلى الدم بينما ينتقل ثاني أكسيد الكربون من الدم إلى الحويصلات الهوائية بسبب ارتفاع تركيزه في الدم. وهنا تبدأ الخاصية العجيبة للهيموجلوبين في العمل وهي أنه يتحد مع أكثر الغازين تركيزا فيقوم بالإنفكاك عن ثاني أكسيد الكربون الذي جلبه معه من خلايا الجسم ومن ثم الاتحاد مع الأكسجين ليكون مركب الأكسيهيموقلوبين (Oxyhaemoglobin) الذي سيحمله من الرئتين إلى خلايا الجسم فيعود الدم مؤكسدا إلى القلب ومن ثم إلى خلايا الجسم. وعند وصول الدم إلى خلايا الجسم فإن الحال سينعكس فثاني أكسيد الكربون الناتج من عمليات الأيض في الخلايا يكون أعلى تركيزا من الأكسجين الذي تمتصه الخلايا لعمليات الأكسدة فيبدأ  الهيموجلوبين بالإنفكاك عن الأكسجين والاتحاد مع ثاني أكسيد الكربون ليكون مركب الكربينوهيموقلوبين (HbCO2) ليحمله الدم غير المؤكسد إلى القلب ومن ثم إلى الرئتين.
وإلى جانب عمليتي الشهيق والزفير التي يقوم بها الجهاز التنفسي لغرض التنفس فإنه يوجد عمليات أخرى قد يحدثها هذا الجهاز كالسعال والعطاس والتثاؤب وذلك لأغراض غير التنفس. فالسعال أو الكحة ((Cough)) عملية يتم تحريضها بمنبهات ميكانيكية أو كيميائية تتعرض لها المجاري الهوائية وذلك لتخليصها من الإفرازات الموجودة فيها، أو أية أجسام غريبة أخرى يمكن أن تدخلها. ويسبق السعال شهيق عميق يتلوه انغلاق للسان المزمار ومع رجوع الحجاب الحاجز والضلوع لوضعها الطبيعي يحدث ارتفاع سريع في الضغط داخل القفص الصدري. وعندما ينفتح لسان المزمار بشكل مفاجئ ينجم عنه تدفق سـريع للهواء من الرئتين إلى الخارج حاملا معه الإفرازات المخاطية والأجسام الغريبة. أما العطاس فهو عملية تقوم خلالها الرئتين بشهيق عميق تسحب خلاله كمية كبيرة من الهواء ثم تخرجه فجأة من الأنف والفم وبقوة شديدة خلال فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز الثانية الواحدة، حيث تصل سرعة الهواء الخارج ما يقرب من 200 كلم في الساعة. ويقوم الجسم بهذه الحركة بطريقة لا إرادية للتخلص من الجراثيم والمواد المتطايرة التي تعمل على تهيج مجرى التنفس، حيث يوجد في الجدار المبطن لمجرى التنفس نهايات عصبية تستجيب لمثل هذه المؤثرات. إن عملية العطس تحتاج إلى طاقة كبيرة جدا أكبر من تلك التي يحتاجها السعال مما يؤدي إلى توقف جميع وظائف الجسم عن العمل بما فيها القلب خلال أجزاء الثانية التي تحدث خلالها. إن كبت عملية العطاس بعد بدئها قد تكون لها عواقب ضارة بجسم الإنسان فالطاقة التي يستجمعها الجسم لإجراءعملية العطس إن لم تفرغ فيها فسيتم تفريغها في مكان أو أكثر في الجسم مما قد يحدث ضررا فيها. ولذلك فقد علمنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أن نقول: الحمد لله بعد حدوث عملية العطاس؛ لأنها أولا قد تمت بنجاح، وأخرجت المواد الضارة من الجهاز التنفسي، ولأنها ثانيا لم تحدث ضررا بالجسم فيما لو لم تتم، ولأنه ثالثا أعاد لنا الحياة بعد أن توقف القلب وبقية أعضاء الجسم عن العمل خلال فترة العطاس. أما التثاؤب فهو عملية لإرادية يتم خلالها إدخال كمية كبيرة من الهواء إلى الرئتين من خلال الفم حيث يتم فتح الفم وكذلك البلعوم إلى أقصى درجة لمدة قد تصل لستة ثواني ومن ثم يقوم بإخراجه. ويقوم الإنسان بالتثاؤب في أحوال مختلفة كاقتراب موعد النوم والنعاس وعند الاستيقاظ وعند الشعور بالضجر أو القلق أو الجوع أو التعب. ولا زال العلماء يجهلون الهدف الحيوي الرئيسي من عملية التثاؤب فبعضهم يعتقد أنها كردة فعل لنقص الأكسجين وزيادة ثاني أكسيد الكربون في الجسم. بينما يقول آخرون أنها تقوم بفتح قناة أوستاكيوس لتزويد الأذن الوسطى بالهواء، وكذلك طرد الهواء الفاسد من الرئتين وغير ذلك من الأسباب. إن فتح الفم بكامل سعته لمدة ستة ثواني قد يترتب عليه بعض المخاطر كدخول بعض الحشرات الصغيرة أو الأجسام الطائرة إلى جانب أنه عمل غير لائق أمام الأخرين. ولهذا علمنا رسولنا الكريم بعض آداب التثاؤب: ففي صحيح البخاري روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم وحمد الله كان حقا على كل مسلم سمعه أن يقول له: يرحمك الله. وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليردن ما استطاع، فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان)).

Scroll to top